مقالات

الزلازل في المغرب بين التفسيرالقدري والبعد المأساوي

إذا تصفح أي باحث أو مهتم المظان والحوليات والمصادر التاريخية لفترة القرن الثامن عشر بالمغرب، ستحاصره بعض الأسئلة المنهجية، باعتبارأن تلك المصادرركزت بالأساس على إنجازات الملوك والسلاطين، مهملة عن قصد أو غير قصد تاريخ المجتمع بصراعاته وتناقضاته وما تعرض له من هزات مادية ومعنوية، اللهم إذا استثنينا قلة من تلك المصادر ومنها مصنفات التراجم والأحداث التي تعرضت فيما تعرضت، كنماذج للطواعين والأوبئة والمجاعات والجوائح المختلفة وضمنها الزلازل، لكن الملاحظ أن موضوع الزلازل لم يحضر بالكثافة التي حضرت بها الطواعين مثلا، ولا ندري السبب الحقيقي لهذا التركيز، ربما لأن ظاهرة الزلازل لم تك مطردة في مثل اطراد الأوبئة والطواعين والمجاعات وباقي الجوائح، فضلا عن وجود حس ضمني في هذه المصادر، يشمل تفريقا ما بين الطواعين والزلازل بحسبان الظاهرة الأولى قضاء وقدرا مع تدخل ما للنشاط البشري، ثم ظاهرة الزلازل من جهة أخرى والتي ربطت دائما بالقضاء والقدر في المجتمعات الإسلامية، علما بأن الآثار الناجمة عن كليهما كانت كارثية في معظمها .
من بين الاستثناءات القليلة التي لم تقتصر على ترجمة الملوك أو سلاطين أو الفقهاء والعلماء، بل امتدت أخبارها إلى الجوائح كالطاعون والظواهر الطبيعية كالزلازل، لكن بوتيرة أقل بالنسبة لهذه الأخيرة، نذكر مصنف ” نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني” لمؤلفه محمد بن الطيب القادري المتوفى عام 1187 هــ / 1773 م وهو كتاب تراجم أساسا ثم سرد لأحداث موثقة بالأيام والشهور والسنوات، يوردها صاحبها في إطار حولي كما عهدناه في عدد من المؤرخين القدامى، والكتاب من تحقيق الباحث المرحوم محمد حجي والأستاذ أحمد التوفيق برسم سنة 1977 وفي أربعة أجزاء، ففيه ذكرلعدد كبير من أخبار الطواعين والجوائح والمجاعات والقحوط والزلازل، في حين لم يتعرض معاصره الإيفراني مثلا والمتوفى سنة 1737 حسب لوي بروفنسال أو 1747 حسب غيره، لم يتعرض في كتابه ” نزهة الحادي في أخبار ملوك القرن الحادي ” إلا بكيفية عابرة ومختزلة للأوبئة والجوائح وزحف الجراد ثم الزلازل، مركزا بالأساس على أخبار الوقائع المرتبطة بسلاطين دولة السعديين ثم أوائل العلويين وقوفا عند المولى الرشيد .
كنموذج، جاء في الصفحة 106 من كتاب ” نزهة الحادي ” ” وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان سنة أربع وستين وتسعمائة كسفت الشمس كسوفا عظيما، وبعد صلاة الجمعة أول يوم من المحرم فاتح عام سبعة وسبعين بموحدة فيهما وتسعمائة / حدثت زلزلة عظيمة . وفي أواخر شوال يوافقه وسط مارس من الشهور الأعجمية عام ثمانية وسبعين وتسعمائة، قدم جراد كثير ” يلاحظ أن الزلزال هنا ذكربشكل جد عابر، في سياق كسوف شمسي ثم زحف الجراد، ومع ما في هذه الظواهر من تقارب أو تباعد، فإن إفرادها من قبل اليفراني كأحداث مرتبطة بسنوات محددة، يؤكد الطابع الحولي للتواريخ العربية الإسلامية في المغرب الأقصى من جهة وتمييز الأحداث الطبيعية كالكسوف والزلازل والجراد عن غيرها من الأحداث ذات الطابع البشري ( لا علاقة للفظ حوليات بمدرسة الحوليات التاريخية Les Annales وإنما نقصد المنهجية التاريخية عند أصحاب المصنفات القروسطية الإسلامـــــية ) .
من جهته يخبرنا محمد بن الطيب القادري بشيء من التفصيل عكس اليفراني في الصفحة 261 من الجزء الأول لكتابه ” نشر المثاني ” بزلزلة وصفها بأنها عظيمة وقعت في شمال المغرب ( سنة 1033 هــ / 1623 م ) بقوله ” ومن حوادث السنة ( 1033 هــ) وقعت زلزلة عظيمة عند آذان الصبح يوم السبت الثالث والعشرين من رجب عام الترجمة وهو ثلاث وثلاثون وألف، فصدعت بها الجدارات بفاس وسقطت الديار ومات تحت الردم خلق كثير لا يحصى عددهم ” ويضيف القادري ” ولم يسلم من الديار إلا القليل، بل الذي لم يسقط منها عزم على السقوط لتفطر جدرانه، والناس آخذون في الهدم لما بقي لما يخشون من سقوطه عليهم ” ويستنتج متأسفا ” والحاصل أن هذه البلدة يعني فاسا خربت ديارها وانقطعت طرقها بالهدم، فمن الناس من مات هو وأولاده وأهل داره ولم يسلم منهم أحد، ومنهم من خرج تحت الردم جريحا وكسيرا، إلى غير ذلك من الآفات التي لم يشاهد مثلها وقد كادت الأرض أن تنقلب لولا تدارك الله تعالى بلطفه، ثم يحدد المدن والمناطق التي ضربها هذا الزلزال المدمرإضافة إلى فاس في ” مكناسة الزيتون وتازة وبني ورياغل وبني زروال ” وقد اقتبس بدوره هذا الخبر من رسالة بعثها سيدي عبد القادر الفاسي لبعض أقاربه .
نستخلص من هذا النص التاريخي جملة إشارات، تتعلق بظواهر الزلازل وكيف تعامل معها المغاربة خلال هذه الفترة التي تعتبرنوعا ما تمهيدا للعصر الحديث :
– كثرة الضحايا الذي سقطوا جراء هذا الزلزال، الذي يبدو أنه كان واسع النطاق وشمل نواح متعددة من شمال البلاد ويذكر بزلزال منطقة الحوز وما جاورها، الذي ضرب وسط المغرب خلال ليلة 8 شتــــــنبر2023 م وخلف 3000 ضحية وضعف هذا العدد من الجرحى كما هد ما يناهز 50 ألف منـــــزل .
– لجوء الناس في محاولة للتقليل من عدد الضحايا إلى هدم البيوت، التي أوشكت أن تنهار بفعل قوة الزلزال المدمر .
– حضور البعد الديني في تفسيرظواهر الزلازل وآثارها كما ورد في قوله ” لولا تدارك الله تعالى بلطــــــــفه ” .
– عدم وجود أي تدخل من طرف الدولة للحد من آثار الكارثة، وهذا أمرظل معلوما بوجه عام، فإذا كانت الطواعين تدفع أهل الشأن إلى عزل المصابين واستعمال بعض المرهمات والأدوية أو أساليب وقائية من النوع البدائي، فإن الزلازل لم تجد أمامها مؤسسات ولا أجهزة مختصة للإنقاذ، ونحن نتحدث عن القرن السابع عشر، خاصة وأن الدولة السعدية خلال هذه الفترة كانت تجتاز طورها المترهل النهائي، وحتى لو افترضنا العكس، فإن السلاطين ليس بإمكانهم الشيء الكثيرأمام مثل هذه النوازل، اللهم إذا استثنينا بعض العمليات التي كانت عادة تتم تحت إشراف قيادات محلية ومنها غرس الأشجار بأمر من صاحب فاس البالي الهيتمي مثلا خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر .
ويخبر القادري بين مفرز وآخر من كتابه بزلزلة ما رابطا إياها ليس بما سبق أو لحق من أحداث ولكن باليوم والشهر والسنة ( الهجرية ) فحسب، كقوله في ص 160 من الجزء الأول لكتابه ” وفي خامس عشر رجب وقعت زلزلة ” ” وفي سابع شعبان ضحى الثلاثاء أول يوم من مارس كانت زلزلة ” ص 290 وتحت عنوان زلزلة بفاس يفيد بوقوعها ضحى يوم الإثنين خامس جمادى الأولى ” ص 363 . وفي الجزء الثاني من الكتاب صار القادري على نفس النهج في الإخبار عن النوازل والكوارث كالطواعين والصواعق والرياح الشديدة والقحوط والزلازل فيقول في ص 54 ” وفي أول يوم من شعبان كانت زلزلة بين صلاة الفجر والصبح، ثم أخرى بعد العصر ثالث شعبان، ” ويعقب على الحدث ” ولم أقف على وفاة أحد في هذا العام من العلماء والصالحين والله أعلم ” والغالب أن القادري حين يمرمرالكرام على مثل تلك الأحداث في بضع جمل، فإنما يعكس خفة النازلة من وجهة نظرنا، حيث لا تتعدى غالبا هزة أرضية خفيفة، لم تخلف أية خسائر بخلاف التفاصيل التي سردها في الصفحة 261 من الجزء الأول، فقد أسهب في وصف شدة الزلزال وما نجم عنه من دمار وضحايا .
يفيد القادري في الجزء الثاني من كتابه ص 144 بأن زلزلة وقعت بفاس ليلة الخميس الرابع عشرمن ربيع الأول سنة 1074 هـ / 1663 م ” فانهدم دور كثيرة وغيرها، وأكثر ذلك بالطالعة، ثم ريح عظيمة كذلك ” ويلحق هذه النازلة بزلزلة أخرى وقعت في الخامس والعشرين من رمضان لنفس السنة ” كثر فيها الهدم الكثير، فبسبب ذلك غرس أهل الطالعة العرسات بالأشجار بأمر رئيسهم الهيتمي، من درب الدره إلى باب المحروق، مع دايرالسور، لأن أكثر ذلك قد هدم بالزلزلتين ” والمعلومة الهامة التي يوردها صاحب نشر المثاني هنا هي غرس الأشجاروهو إجراء فريد من نوعه خلال هذه الفترة التاريخية، وغالبا كان هذا العمل يقي من الهزات العنيفة ويحفظ التربة من الانجراف نتيجة ذلك .
في الجزء الثالث من نفس الكتاب يقول القادري في ص 175 ” ومن حوادث العام 1120 هــ / 1708 م وقعت زلزلة في يوم الخميس ثالث عشر ذي القعدة، عند آذان الصبح، فمن ” المؤذنين من قطع الآذان “، و” منهم من صاح دهشا ” نقف عند عبارة فمن المؤذنين ” من قطع الآذان ” ذلك أن دلالاتها لا تخفى على تغلب وازع التشبث بالحياة على أي وازع آخر حتى ولو كان دينيا، فيما صاح آخرون دهشا، وهي العبارة التي تحمل نفس الدلالات وإن كانت أقل حدة من سابقتها ويضيف القادري ” وسقطت دور كثيرة وتعيبت، ومات بهدمها قوم كثيرون ” ويعلق بحسرة ” فكانت من أشد الأمور” .
وفي حوادث سنة 1169 هــ / 1755 يعرض القادري لتفاصيل زلزلات متتابعة ضمن الجزء الرابع من كتابه ” ففي ضحوة يوم السبت سادس وعشرين من المحرم، وقعت زلزلة ارتجت لها الأرض ارتجاجا، فاهتزت أولا ثم مالت مشرقا ومغربا وبقيت تضطرب، وسمع نحو إسم صوت من الأرض يشبه صوت الرحا التي تدحرج بالازقة وقدر ما بين اهتزازها وسكوتها قريب من درج ” ورغم أن القادري معدود ضمن مؤرخي الحوليات المغاربة للقرن الثامن عشر، فإنه هنا يقترب من شروط الكتابة الأدبية المقرونة بدقة الوصف وبراعة التصوير رغم ان السياق ليس مبهجا بالمرة، يضيف ” وسمعنا من يقول اضطرب الماء في الصهاريج حتى فاض على البيوت، وتغيرت العيون، ووقف الماء في الأودية عن الجري، وسقط بعض الدور ” ويحدد الخسائر قائلا ” ومن لطف الله أنه لم يمت بفاس إلا نفسان أو ثلاثة ” ثم يعود إلى واقعة الزلزال حيث سقط التراب واللَّبِن من غالب الدور، كما تصدعت الحيطان والسقوف وتعيَّبت، أما من جهة الناس فقد أخذوا كالعادة في هدم ما عاب منها خوف سقوطه عليهم، ولاينسى القادري أن يصف فزع الناس الشديد وفرارهم من الحوانيت تاركين أمتعتهم بها من غير غلق، كما عطلت المكاتب والأطرزة والأسواق ” وهنا يشير إلى تأثيربسيط للكارثة على الصعيد الاقتصادي والمعاشي للناس، مما لم نلاحظ حضوره في ما اقتبسناه له سابقا، ويعود القادري كغيره من مصنفي الحوليات المغاربة إلى العزاء الديني قائلا ” وتدارك الله تعالى خلقه بلطفه وعفوه ” .
في نفس السياق تعرض القادري لما وصفه ميلان بحر سلا، الذي أدى فيضانه إلى غرق كثير من الناس ويعود إلى خبرالزلزلة فيفيد أن بعض الجبال تصدع، منها جبل صغيرقرب سيدي أبي الشتاء من عمل ورغة، تصدع بثلاث قطع، وبعد مضي نحو ستة وعشرين يوما وقعت زلزلة ثانية بعد صلاة العشاء ووصفها القادري بأنها أشد من الأولى بكثير، لكنها سرعان ما هدأت ” فسقطت دور من فاس واشتد روعهم، وورد الخبربأن غالب دور مكناس وقصورها انهدمت، وانهدم كثير من المسجد ومسجد قصر السلطان الأعظم وكثير من المساجد” وكالعادة فقد قوَّم القادري أعداد من هلكوا في النازلة فحددها في خلائق كثيرة أحصي منها نحو عشرة آلاف، وعلق ” ومن لم يحص لا يعلمه إلا الله “.
والجديد هنا أن الناس التحفت الأفضية وضربت الفساطيط ومن لم يستطع استتر بمطلق الثياب الخشن، وذلك مخافة تجدد الهزات ومن ثمة تهدم الدورعلى رؤوس أصحابها، ولما تنوسي الأمر قليلا، عاد الناس إلى الدور فخمَّلوا الأتربة المتراكمة وجدوا في البحث عن الأمتعة ويعلق القادري على هذا ” وتمول من ذلك قوم وافتقر آخرون ” ومع ما في هذه العبارة من دلالات اجتماعية، فإنها تشير قطعا إلى قضية السطو والسرقات التي تحدث في مثل هذه الكوارث، بما يصاحبها من استغلال بشع لها يصل إلى مستوى أن يصبح البعض غنيا، نتيجة مثل ذلك الاستغلال، بينما يصبح آخرون فقراء معدمين . ومن الطريف هنا أن القادري يبدي تشفيا واضحا إزاء هلاك مدن النصارى نتيجة أمر هائل جدا وهو يقصد زلزالا رهيبا، ويتجلى التشفي بوضوح ” والحمد لله على هلاكهم وعلى فضل الله ورحمته ولطفه بالمسلمين، لولا أن من الله علينا لخسف بنا، نسأله تعالى دوام نعمته ورحمته “، واضح هنا النظرة الدينية التي ترجع أسباب الزلازل إلى مسألتي الكفر والإيمان، فمن الطبيعي والحالة هذه أن تتسلط الكوارث على مدن وأراضي النصارى وأن تكون خفيفة على المسلمين، لا أن هذه الأمور الطبيعية تجري دون قصد، ويمكن أن تصيب المؤمن كما الكافرعلى حد سواء .
هذه النظرة الدينية البسيطة تتعزز لدى القادري عن طريق آيات وأحاديث نبوية، ممثلا لها بالعديد من النماذج كالهزات الارضية في عهد النبي ( ص ) وعمر بن الخطاب وقبل ذلك زلزلة عام الفيل وإيوان كسرى، ليختم كل ذلك بدعوى خالصة ” عافانا الله من عذابه وأدام علينا عافيته بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “.
لقد اخذ الضعيف الرباطي في تاريخه عن القادري عبرالصفحة 158 مجمل الفقرة السابقة التي تتحدث عن الزلزلة العنيفة التي عرفتها فاس بالخصوص بل وعن هيجان بحر سلا أيضا، مع وصف مختصر لزلزلة عظيمة وقعت يوم السادس والعشرين من محرم الحرام سنة 1169 / 1756 علما بأن هذا المؤرخ متأخر زمنيا عن القادري بحيث توفي سنة 1820 .
يمكن القول إن إخباريي ومؤرخي الفترة، لم يتمكنوا لأسباب موضوعية من ربط الجوائح والزلازل خاصة بسياقها التاريخي، بل اقتصروا على وصف أهوالها وما نجم عنها، بكيفية تكاد تكون مستقلة عما سبقها أو لحقها من أحداث، وربطها بالتصور الديني على نحو عام .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!