مقالات دينية

العلم والمعرفة عند مار أفرام وموقعهما اليوم

سامي خنجرو

العلم والمعرفة عند مار افرام وموقعهما في عالم اليوم

ولد مار افرام الملفان في بداية القرن الرابع الميلادي، ويجمع المؤرخون أن ولادته كانت سنة 306م. وتتلمذ لمار يعقوب القديس اسقف نصيبين، ولازمه ملازمة الظل، فأقامه معلـّما في المدرسة التي فتحها في نصيبين سنة 325م. ولما توفي القديس مار يعقوب، واصل مار أفرام مهمته وظلّ عاكفا على التعليم في مدرسة نصيبين قرابة 40 سنة. واقتدى بمعلـّمه ورعاً وأدباً وعلماً وفقراً، وترهّب ورسم شمّاساً، وظلّ كذلك طيلة حياته تواضعاً. توفي مار أفرام سنة 373م، ولم يتجاوز السبعين عاما.

الذي يتأمل في شخصية مار افرآم، يلاحظ أن شخصيته كشاعر أشهر وأقوى بكثير من شخصيته كناثر، حيث أن كتاباته المنظومة أكثر جدًا من كتاباته النثرية. لقد ترك مار افرآم من الكتابات بوجه عام، ما لا يقل عن 3 ملايين من الأسطر أي مائة وعشرون ألفا من الصفحات تقريبًا. فهو بذلك أشهر الادباء الشرقيين غزارةً في التأليف بلا منازع، وأعلنه البابا بندكتوس 15 ملفاناً للكنيسة الجامعة سنة 1920م.

ولمار افرآم شروحات كثيرة في عدد من أسفار الكتاب المقدس ومحاربته للبدع وبعض الكتابات اللاهوتية وسير القديسين. ولمؤلفاته حصّة الاسد في طقسنا الكلداني المشرقي. ومن أهم مؤلفاته الشعرية قصيدة حول المعرفة والعلم ومطلعها:

الاها هَو يولبانا    لأيْـنا دراحم يولبانا   وَلربّا دملـّبْ شبّـير   عويذَي ربّا بملكوثاخ

 وهذه القصيدة مؤلفة على الاحرف الابجدية للـّغة الكلدانية وبواقع بيتين لكل حرف، ويظهر فيها مار أفرام براعة نادرة، واضعا مكانة بديعة لمُحبّي العلم والمعرفة طالبا من الله ،أن يُعظـّم مكانتهم في الملكوت. وتقال في طقسنا الكلداني المشرقي في صلاة الليل  في جمعة تذكار الملافنة السريان والرومان.

كما وصف فلسفته الرهبانية بقصيدة نفيسة جدًا يخاطب فيها نفسه التي روضها على شظف أعمال التقشف القاسية جاء فيها:

كم مرة جعتُ. وكان جسدي بحاجة إلى الطعام. ولكنى امتنعتُ عن تناوله. لكي أستحقَ الطوبى التي سينالها الصائمون.

عطِشَ جسدي الذي جُبلَ من طين. ورغِـبَ في الماء ليرتوي، فأهملـْته ناضبًا لكي يستحقَ التلذذ بندى النعيم.

هذه كانت طريقة حياة مار افرآم كراهب… ولم تكن الرهبانية لديه تصوفًا وانقطاعًا عن العالم وصومًا وصلاة فحسب، بل كانت أيضًا خدمة للإنسانية ومثالاّ رائعا  في نكران الذات من أجل القريب.

ويقول النقـّاد المعاصرون ان القديس مار أفرام كان كاتباً في الاخلاق وواعظاً في الاداب العامة أكثر منه لاهوتياً. نعم العلم والمعرفة كانا في خدمة البشرية  والاعمال الخيرية في ذلك الزمان وبعده.

العلم والمعرفة في عالم اليوم

لم تعرف الإنسانية في تاريخها وضعا مماثلا للوضع الذي تعيشه الآن، وضع يتسم بالحيرة والتيه والقلق، وضع يشعر فيه الإنسان بالازدواجية والمفارقة، فلقد تحقق للإنسان في خمسين سنة الماضية ما لم يتحقق له طيلة تاريخه من رغد العيش: في المأكل والمشرب، ورفاهية الحياة: في المسكن والملبس والصحة والاتصال والتواصل، ولكن بالمقابل فقَدَ الطمأنينة والاستقرار، فقَدَ الوجهة والبوصلة.

وَضْعٌ يضرب فيه الفقر أطنابه، فقر مادي يضرب أربعة أخماس العالم وفقر روحي يضرب ما تبقى منه. عالم يتغذى بالحروب والعن*ف والصدام، عالم يُكَدِّس ترسانة من الأسلحة تكفي لإبادة 70 مليار من البشر أي ما يعادل اكثر من عشر مرات سكان العالم، وكأن مرة واحدة غير كافية.

لا أحد يجادل في مكانة وأهمية العلم والمعرفة في الحضارة المعاصرة، كما لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا العلم أصبح الفاعل الأساسي، إن لم يكن الوحيد في حياة هذه الحضارة، وعلى كل المستويات. فلو أردنا أن نعطي عنوانا مُلخِّصا وجامعا لحضارة العصر، لكان بدون منازع: العلم. ولكن هذا العلم بقدر ما فتح آفاقا لم تكن الإنسانية تحلم بها، بقدر ما صاحبتها مخاطر كمّية ونوعية، أصبحت تهدّد توازن الكون ومصادر الحياة وهوية الإنسان الوجودية.

لم يعد العلم إذن، كما كان في الماضي أيام مار أفرام ولغاية القرن 19 وبداية القرن 20، حاملَ الخيرات والنعم، وجالِبَ المسرّات والتقدم، بل أصبح أيضا حاملا الانتقام والمضرّات، وأصبح أكثر فأكثر مصدرا للخوف والقلق. لنستمع إلى ألبرت كامو أحد المتشائمين من هذا النمط ، وهو مؤلف وفيلسوف فرنسي حاز على جائزة نوبل في الادب سنة 1957م، إذا كان القرن 17 هو قرن الرياضيات، والقرن 18 قرن الفيزياء والقرن 19 قرن البَايَلوجيا، فإن القرن العشرين هو قرن الخوف.

هذه الصورة المزْدوَجة والمتناقضة أصبحت ملازمة لمسيرة العلم، خاصة بعد أن تمكـّن العلم، بفضل التطورات التقنية، من النفاذ إلى قلب المادة وقلب الكائن الحي والتحكم فيهما، مما يعني القدرة على تغيير طبيعة الأحياء والأشياء. إننا ندرك أن مصير العالم قد انفلت من قبضة الإنسان، ولم نعد ندري عن أي وجه سيسفر عنه المستقبل؟ ولعل هذا ما استحضره أينشتاين عندما أجاب على سؤال حول الحرب العالمية الثالثة قائلا: “لا أعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، ولكن أعرف أن الحرب العالمية الرابعة سيشهدها قليل من الناس وستكون بالحجارة والعصي”.

إن عالمنا اليوم يبدو مثل سفينة “تيتانيك” (Titanic) المُبْحِرة في محيط ممتلئ بالجبال الجليدية والمُنْطلِقة بسرعة جنونية قي اتجاهها، ولا مَنْ يوقفها أو يغير اتجاهها لأن غرور ربَّانِها وعَمَى بصيرتهم من جهة، واستغراق ركـّابها في اللهو والعبث من جهة أخرى، يَحُول دون استشعار المخاطر الحقيقية المحدقة بالسفينة. ليس هناك خيار أمام الإنسانية سوى العمل على تغيير وجهة هذه السفينة بإعادة التفكير في مقاصدها وغايات وجودها.

هناك وعيا جديدا بدأ يتبلور في صفوف العلماء نتيجة إدراكهم للمخاطر المُحْدقَة بالحياة من جهة، ونتيجة الثورات المعرفية التي يُسْفِر عنها العلم في مختلف الميادين من جهة أخرى.ان العلم لم يعد قادرا لوحده على تدبير شؤون العالم، ويعترف بقصوره في الإحاطة بالواقع والحقيقة. فلا بدّ للعلم أن ينفتح على الدين والاخلاق والثقافة، بحثا عن التكامل والتفاعل على أمل الوصول إلى الحكمة لِلـَجم إرادة التدمير.

فإذا كان القرن 20 هو قرن الخوف، فلْنجعل من القرن 21 قرن الأمل، كلّ واحد منـّا من موقعه، وعلى غرار القديس مار أفرام، بالصلاة والتواضع ونكران الذات والاخلاق.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!