آراء متنوعة

رحلة مع آنا كارينين والأبله لتولستوي وديستويفسكي

صافيناز علاء الدين

عندما يكون الخيال في أوج عطائه، يكون الأبداع من صميم واقع، ونسجه من خيوط أفكار، أبتدعها ذاك السحر الآتي من روح هامت بالإلهام، فخلقت عالما جميلا، منعزلا وبعيدا عن شوائب البشر. عالم يتحكم به كاتب مبدع يسير الأحداث ويخلق شخصيات كيفما يشاء وكما يشاء، لا يقع تحت تأثير أحكام أفراد ولا قوانين حياتية ملزمة، بل يقع تحت تأثير خياله الخصب وصياغة الكلمة، وسحر الحرف البراق، وعلامات التنقيط والأستفهام والتعجب وعلامات الأقتباس، عالم لا تشوبه شكوك، ولا طعنات أحياء على سطح الأرض، ولا لعنات أموات من قبور تعلو صيحاتهم من ظلم وظلام.

في رحلة أدبية شيقة من خيال وواقع، ومن جنون عذب وأرواح خطت وكتبت بحبر الدم، سطور، عبرت فيها عن النفس البشرية وما يختلج فيها من مشاعر وأحاسيس وعواطف، وكذلك عن تناقضات وأزدواجية وسلوكيات ممكن أن تكون فيها، أي هي غوص في أعماق النفس البشرية بكل تفاصيلها وبكل أسرارها وبكل خباياها وخفاياها، أشبه بأن تكون سطور كتبت على لوح طيني، لوح مكون من ماء عذب زلال وطين معجون بسر الوجود. سطور كتبت بقلم معبأ من محبرة الدم، ليكتب ذلك القلم الماسي السحري الأستثنائي، روايات وحكايات وقصص، هي من صنع الأساطير والفلاسفة.. ومن تلك الروايات.. روايتا آنا كارينين، والأبله.

لم يكن لقراءتي زمنا محددا لهما، فقد تركت نفسي وروحي وعقلي وذهني ملكا لهما، يتصرفان بي كيفما يشاءان، وكيفما يحبان، وكيفما يكرهان، وكيفما يبغضان، لأول مرة في حياتي، لم أعترض، ولم أتمرد، ولم أغضب، ولم أجادل، ولم أناقش. والمفارقة الجميلة هنا هي أنني لم أخرج من بواطن نفسي ما أكتم، بل ، حصل الأدهى من ذلك، فقد وجدتني أفشي سري لهما بكل أريحية ودون خوف أو قلق، يشاهداني بإنفعالاتي، وبضعفي، وبقلة حيلتي، وبدموعي التي أخفيها حتى عن نفسي، تسللا الى نفسي دون إذن مني، ولكنه تسلل محبب إلي، فأنكشف سري أمامهما، و أجدني في كامل قواي الحياتية، أرضخ وأذعن وأخضع، لهاتين التحفتين الأدبيتين العريقتين لمؤلفيهما، فلا أتململ منهما، ولا أشعر بالزمن من حولي، ولا أعرف فيما اذا كان الزمن قد توقف، أم أنه لازال يسير بي الى الأمام، أم هو يرجع بي الى الوراء، وهل أنا لازلت على الأريكة أتمدد ماسكة بين يدي كتاب من صفحات ورق، أم أنني أقرأ مخطوطة يعود تاريخها لقرون مضت، هل أنا في عصري الذي أعيشه وهو عصر الذكاء الأصطناعي والشبكة العنكبوتية، أم أنا في القرن التاسع عشر وماقبله، عصور العربات التي تجرها أحصنة وحوذي يمسك بسياطه ويضرب الخيول به، وحوافر تلك الخيول تدك الأرض لتسرع في شوارع بطرسبرغ في روسيا القيصرية، أو في شوارع أكسفورد الإنجليزية المبللة بالمطر، أو تمر تلك العربات من أمام كاتدرائية نوتردام الباريسية وأحدبها المفتون بالغجرية ؟ .

أأنا، أنا، أم أنا لوحة رسم لإمرأة رسمت بتوقيع رسام مغمور، لوحة علقت على حائط، حائط في صالون أستقبال لمنزل إحدى شخصيات تلك الروايتين، آنا كارينين والأبله، لوحة مؤطره بإطار ذهبي، أو لوحة أوبيسون الباريسية، أو لوحة مرسومة بملامح تشبه ملامح الجيوكاندا، أو لعلني قد أكون لوحة مرسومة بملامح آنا كارينين نفسها، وأنا أشاهد وأسمع، وأيضا أسترق السمع في كثير من أحاديثها، ومنها ما قالته لزوجة أخيها: ” أنا لا أوذي أحدا غير نفسي، فلست أملك حق إيذاء الغير“. كذلك أعلم بما ما تفعله آنا (الحقيقية) في روايتها، من خطايا لا تحسب هي عواقبها، وقد تحسب عواقبها، ولكن رضخت هي للحب، أي رضخت للقلب وسطوته دون العقل، ذلك الحب في خطيئته والذي أصبح يتحكم بمصيرها وبمصير عائلتها دون وعي وإدراك منها لخطورة الأمر عليها وعلى سمعتها وتأثيره على زوجها وإبنها مجتمعيا وسياسيا، وأجدني لا أستطيع فعل شيء أمام حبها العاصف والجارف لفرونسكي ذلك الضابط الشاب الذي ألهب قلبها، وهام هو بسحرها الأنثوي. أو أجدني لوحة معلقة على حائط حجرة الأمير مشيكين، وأطلع على كل صراعات الأمير مع نفسه، ولا أستطيع أن أحادثه وهو يواجه من يطلقون عليه (الأبله، والأحمق)، وهو يقول لهم: ” لماذا تخلق الطبيعة أفضل الناس لتسخر منهم بعد ذلك؟ أنا لم أفسد أحدا.. لقد أردت أن أحيا لسعادة الناس جميعهم.. لإكتشاف الحقيقة ونشرها.. ماذا كانت النتيجة؟ لا شيء! كانت النتيجة أنكم تحتقرونني، هذا دليل على إنني أحمق “. ولم أستطع من أن أنقذه من نوبات الصرع التي كانت تنتابه، فأنا لوحة مزروعة على حائط، لا حول ولاقوة لي، ولم أستطع كذلك من أن أصرخ بوجه ناستاسيا فيليبوفنا ومنعها من التلاعب بمشاعر الأمير وهروبها منه ليلة زفافهما، والذهاب مع روجويين ذلك الشاب المغرم والمجنون والمفتون بها من ملاقاة مصيرها الدموي المحتوم على يديه، لأنني ولسبب بسيط، مجرد لوحة رسم معلقة على مسمار في حائط حجرة ناستاسيا فيليبوفنا ! . إذن، فهل أنا أنا، أم بالفعل أنا هي تلك اللوحة (الصامتة الناطقة، الحاضرة الغائبة، المعاصرة لتلك المرحلة، والمستقبلية القادمة من عصر الذكاء الأصطناعي) المعلقة في عوالم الروايتين الساحرتين؟
قد يخبرني تولستوي عن (أنا) التي أبحث عنها في روايته، وهل أنا أنا، أم أنا تلك اللوحة التي شهدت أحداث روايته، وكنت بلا عنوان، وبلا هوية، وبلا أنتماء لزمان ومكان. لم يخلقني هو بخياله، ولم يصوغني عقدا في جيد أفكاره، ولم أسيل من حبر قلمه، بل أقف على قائمة أبداعه، عند زمان ومكان افتراضيين وفي صفحات اللاوعي، فيبدأ قلمه يتحرك بروح، وحبره يقطرني قطرة قطرة، ليخلقني كلمات وشخوص وأحداث في أسطر صفحات رواياته التي لم تكتب بعد، والتي لا تكتب أبدا!
أم لربما أن ديستويفسكي، قد كتبني، في خجل الأمير مشيكين، وفي غموضه، وفي روحه وفي أفكاره التي لا يفهمها سوى من خلق تلك الشخصية بمنطقها الحقيقي الناصع البياض والأستثنائي والذي حير كل المحيطين به.

ومن خيال وواقع للكاتبين في روايتهما الساحرتين، فإن هناك بعض من جوانب أحداث الروايتين وشخوصهما قد تقتربا نوعا ما وقليلا من واقع الحياة التي عاشاها تولستوي وديستويفسكي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!