مقالات عامة

قضية امرأة من بلاد سومر

قضية امرأة من بلاد سومر

حين قرأت محضر تسجيل وقائع قضية المرأة الساكتة في بلاد سومر المكتشف في خرائب مدينة نيبور في وادي الرافدين، والتي حدثت في حدود عام 1850 قبل الميلاد، تذكرت قول فيدور دوستويفسكي عن روايته الج#ريم*ة والعقاب: إنها تقرير سيكولوجي عن أحد الجرائم. لقد تميزت عبقرية دوستويفسكي بقوة فلسفية هائلة. فعندما نقرأ رواياته يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه من سمات العبقرية، فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كل محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي.

تندرج قضية المرأة السومرية الساكتة في هذا السياق، وتعود بداية الوقائع إلى عام 1950م، حين عثرت بعثة مشتركة من المؤسسة الشرقية في جامعة شيكاغو والمتحف التابع لجامعة بنسلفانيا على لوحين من الطين في مدينة نفر السومرية جنوب العراق، سُجّل فيهما محضر لمحاكمة خاصة بج#ريم*ة ق*ت*ل. ويدل وجود نسختين أو أكثر من سجل واحد على أن قرار محكمة مدينة نفر قد اشتهر في جميع الأوساط القانونية في بلاد سومر بكونه سابقة قضائية مشهورة.

والحادث كما روته ألواح الطين يقول: إن ثلاثة رجال هم حلاق وبستاني، وشخص ثالث لم تُذكر صنعته، ق*ت*لوا لسبب ما، أحد موظفي المعبد. ولأسباب غير معروفة أخبر هؤلاء زوجة القتيل بمق*ت*ل زوجها، لكن المرأة سكتت ولم تبلغ السلطات الرسمية بالأمر. إلا أن خبر الج#ريم*ة وصل أسماع الحاكم في العاصمة، فأحال القضية للنظر فيها إلى مجلس المواطنين في المدينة الذي كان بمثابة محكمة عدل.

نهض تسعة رجال في هذا المجلس لمقاضاة المتهمين، وشرح هؤلاء القضية بتفاصيلها وتوصلوا إلى أن الج#ريم*ة لا تقتصر على الرجال الثلاثة فقط بل يلزم مقاضاة الزوجة بسبب بقائها ساكتة، الأمر الذي يجعلها شريكة في الج#ريم*ة. ثم يؤكد محامي الدفاع للمحكمة أن المرأة لم تشترك في ق*ت*ل زوجها، لذلك ينبغي تبرئتها، مبرراً أن تلك المرأة كان لها من الأسباب ما حملها على السكوت، لأن زوجها لم يكن قائماً بإعالتها.!!.

وفي النهاية يعلن القاضي أن زوجةً لم يقم زوجها بإعالتها، مع الافتراض بأنها كانت تعرف أعداء زوجها، لماذا نعاقبها؟ على سكوتها؟ ينبغي قصر العقوبة على أولئك الذين ارتكبوا الق*ت*ل فعلا، وبموجب قرار القاضي حُكم على الرجال الثلاثة بالقصاص وأطلق سراح الزوجة. ولكن ماذا يقول القضاة في عصرنا الحديث عن هذه الج#ريم*ة وبماذا يحكمون؟

أرسلت ترجمة محضر جلسات المحكمة إلى البروفيسور أوين روبرتس عميد كلية الحقوق في جامعة بنسلفانيا، آنذاك، فكان جوابه: إن قضاة اليوم يتفقون مع القاضي السومري ويحكمون بالحكم نفسه. مبرراً أن تلك الزوجة لا يمكن أن تعد شريكة في الج#ريم*ة بموجب قوانيننا اليوم. ماذا سيقول قضاة المشرق العربي لو عُرضت عليهم هذه القضية من جديد؟ هل يحكمون بما حكم القاضي السومري، أم أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، ولكل زمان دولة ورجال؟

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!