ذكريات من الماضي العراقي القريب (5)

الكاتب: عبدالله النوفلي
 
ذكريات من الماضي العراقي القريب (5)
ذكرنا في الحلقة الماضية كيف تفتق تفكير المسؤولين في الحكم أيام ذاك بمسألة الفردي والزوجي حلا لمشاكل السير حيث اكتضت الشوارع بالسيارات وطابور الانتظار على محطات الوقود امتد لكيلومترات عدة وحتى هذه المحطات بدأت بتطبيق مسألة الفردي والزوجي بتزويد الناس بما تحتاجه سياراتهم من الوقود وليس هذا فقط ولكن لكميات محدودة وغالبا ما كان عامل محطة الوقود يستلم مبالغ أضافية تذهب إلى جيبه الخاص كي يملأ الخزان بالوقود هذا الأمر الذي جعل من تجارة الوقود على الأرصفة تنشط وبقوة وبأسعار مضاعفة لتلك الموجودة لدى المحطات ويكون حظ الإنسان جيدا لو استلم من هؤلاء وقودا نظيفا غير مغشوش بالماء الذي يتلف المحركات عند تشغيل السيارة به أو يحتاج الإنسان كي يذهب للمصلحين وينظف خزان وقود سيارته من بقايا الماء حتى تعود السيارة تعمل مجددا بدون مشاكل مع أن الوقود المجهز من المحطات لم يكن أصلا بالمواصفات التي تعمل بموجبها المحركات الحديثة للسيارات التي غزت الشارع العراقي وكانت تسمى بسيارت المانفيست او البالة، ومنها بمقود يمين ومنها بمقود على جهة الشمال كما هو الحال في العراق أضافة لأن الكثير منها كان يتجول بدون لوحات تعريفية وكم من السيارات آنذاك تم تهريبها من العراق إلى دول الجوار وكم غيرها تم أدخاله من تلك الدول إلى العراق حتى سمعنا بأن عصابات محترفة في العديد من دول العالم بدأت بتجميع السيارات المسروقة او التي هي نصف عمر في بلدانها وتشحنها باتجاه العراق، لقد كان سوق السيارات فوضى عارمة في ضل غياب سلطة المرور.
لقد وصف الكثيرين من قبل أن أكتب أنا مجمل ما جرى من أحداث كل بطريقته الخاصة، لكنني كنت هناك حيث الأحداث تتسارع والمشاكل تحدث والضحايا يزداد عديدهم واللافتات السوداء تملأ كل زوايا ومنعطفات الشوارع وكلها تتحدث عن المغدورين والشهداء والمأسوف على شباباهم وضحايا الأعمال الار*ها*بية … التي نعلم من خلالها أن أحلام كل من ورد اسمه فيها قد تم اغتيالها وأيقافها وربما هذا كان سيصبح يوما مهندسا أو طبيبا أو قائدا ما وقد حرمنا الار*ها*ب من خدماته!!!
ومن يتمعن لأبعد من قطعة القماش هذه السوداء سيجد قصصا يندى لها الجبين ومآسي يصعب على القلم تسطير كل جوانبها لأن ما كان يحدث وبعض منه لازال إلى اليوم يحدث كان صعبا جدا أن يصدقه العقل كونه قد صدر من العراقي الذي كان يقول عن نفسه (أنا أخو خيته)، فحتى جثث الضحايا لم تسلم من الأشرار فكم من المغدورين الذين كانوا يقضون نحبهم صدفة خلال التفجيرات التي كانت تحدث في الشوارع العامة، كان يسطو على هواتفهم المحمولة ضعاف النفوس كي يتصلوا بأهلهم كونهم مخطوفين وهم بحاجة لفدية، وبعد مفاوضات مستعجلة  واستلام الفدية كان يرشدهم عبر تلفون الضحية أن يأخذوا جثته من الطب العدلي!!! ويجد أهل الضحية أن خسارتهم كانت خسارتان!!!، هذه جملة من الأعمال السيئة التي أوجدتها الحروب التي خاضها العراق خلال العقود الأربعة الماضية.
فبلدنا الذي يحوي كنوزا كثيرة وآثارا تفتخر بها متاحف مهمة في العالم كمتحف اللوفر بباريس ومتحف برلين وغيرها أصبح العراق خلال العقد الماضي مليئا بالمتفجرات وشوارعه تمزقها السيارات الملغمة وتكثر فيها السيطرات التي توهم السائقين أن أحد أفرادها يمكنه اكتشاف المتفجرات التي بداخلها عبر عصا يمسكها بيده وتسير السيارات بحذر إلى جانب ذلك الحارس والسائق ينظر للحارس فربما يشير له بالذهاب جانبا للتفتيش، وإن حدث هذا ففي العادة غالبا ما كان يتم سؤال السائق كونه إن كان يحمل سلاحا من عدمه، وإن أنكر يقولون له وهل تحمل عطورا أو مواد تنظيف من الكيماويات المنتشرة في السوق وعند جوابه بالإيجاب كان يسمح للسيارة بمتابعة السير دون تفتيش.
ومسألة هذه السيطرات وكثرتها كانت سببا بأرباك السير وتأخير الناس عن أعمالهم، وياريت لو كانت تمسك بالعصابات التي كانت تقوم بالج#ريم*ة المنظمة وأمام أنظار الجميع والأمثلة بسيطة فكم من حادث جرى في مناطق مهمة وفي مسافة قريبة من السيطرات دون أن يقوموا بعمل ما، وما اختطاف رئيس اللجنة الأولمبية من اجتماع عام وفي منطقة بوسط بغداد سوى مثل واحد، وسبق أن سمعت عن أحد المغدورين قوله أنه عند اختطافه تم وضعه في صندوق السيارة ومر موكب الخاطفين من سيطرات كثيرة وكان الخاطفين يسلمون على السيطرة بقولهم (شلونكم شباب) وترد السيطرة التحية لهم ويستمرون بالمسير ومرة فتح أحد أفراد السيطرة صندوق السيارة التي كان المغدور بداخله وابتسم بوجهه حارس السيطرة وأغلق الصندوق وأشار للسيارة بمتابعة السير، وأيضا كان من الطبيعي وأنت تمر بهذه السيطرات أن تشاهد أفرادها ملتهين بالتكلم بجوالاتهم ولأوقات طويلة غير آبهين بحالة السير والسيارات المارة وطبيعي كان مشاهدة الحارس المتكيء على سلاحه أو واضع سلاحه بعيدا عنه وهي نقاط من البديهيات على الحارس المجتهد ان لا يقوم بها إذا أراد تنفيذ واجبه على اكمل وجه وبالحقيقة عندما يطبق التعليمات فهو يحافظ على روحه قبل أن ينقذ أرواح غيره. وإن تحدثنا عن مثل هذه القصص فسنجد الكثير ولا مكان لسرد جميع ما كنا نسمعه من هذا أو ذاك لأن ربما تكون المبالغة تدخل ضمن التفاصيل ولا نستطيع نقل الحقيقة كما نريد في مقالاتنا هذه.
وكما نتكلم عن هؤلاء الذين أصبح الأمان حلما لهم فماذا نتكلم عن الكهرباء واستمرارية تزويدنا بها التي أصبحت هي الأخرى حلما صعب المنال بحيث أصبح لها تجارها الأختصاصيين وأصبح في كل شارع أو زقاق مولدة كبيرة تزعج الجميع بصوتها وبسهولة تجد شبكة عنكبوتية من الأسلاك الممتدة بمحاذات البيوت وتستطيع تتبعها حتى توصلك إلى حيث يتحقق الحلم وتجد المولدة التي يشغلها أحدهم ويراقب قواطع التزويد للبيوت بدقة كي لا يجد بينها من يسحب كهرباء أكثر مما قد تعاقد على تزويده بها كأن يكون خمسة او عشرة أمبيرات وغالبا ما كان هؤلاء يحمّلون مولداتهم حملا أكبر من طاقتها، ودائما نسمع الكثير من الوعود من مسؤولي وزارة الكهرباء في الصيف عندما يزداد الطلب على الطاقة الكهربائية ويتكلمون عن الأحسن في الصيف القادم ويأتي الصيف الآخر لتعود حليمة لذات العادة القديمة وكأني بهم كمن يقول لأخيه غدا سأحقق لك ما تريد وكل يوم له غد وهكذا القصة أصبحت مستمرة وبلا نهاية ومنذ عقود من الزمن أصبح العراقيون يعيشون تحت نظام البرمجة، فيوما كان أبناء بغداد أحسن من غيرهم في المحافظات لأن حصولهم كان أكثر من 50% من ساعات اليوم لكن بعد 2003 أصبحت بغداد ضحية ليقية المحافظات لأن المحطات التوليدية موجودة خارجها وأصبحت المحافظات تتحكم بكمية الطاقة التي تخرج منها لغيرها وكانت بغداد هي الضحية بحيث لم تكن تستلم البيوت فيها سوى ساعتين أو ثلاث أو أربع ساعات كأحسن تقدير يوميا، ومن جراء هذا الوضع ازدهر سوق المولدات وتجارتها.
وهذا أيضا ولّد تجارا منتفعين ومستغلين يبحثون في الأسواق العالمية عن أرخص ما موجود من بضاعة ولا يهم لديهم السيطرة النوعية بحيث عندما كنا نشتري مولدة من السوق وكان شارع الكرادة خارج ببغداد هو الموقع الرئيسي لهذه التجارة لم تكن لتستمر بعملها المنتظم سوى موسم واحد وبعدها تبدأ المشاكل بحيث أن الواحد يمكن أن يصرف أضعاف سعرها لدى المُصلحين مما يجعله مضطرا وبعد كل هذا للبحث عن مولدة أخرى جديدة بحيث أصبحت البيوت غالبا ما نجد بها العديد من المولدات الصغيرة؛ منها العاطلة ومنها التي تعمل جزئيا أو التي لازالت حالتها جيدة هذا إضافة للاشتراك بمولدة الشارع المتعددة الخطوط منها العادي ومنها الذهبي. الأمر الذي أصبحت البيوت بحاجة لقاطع دورة متعدد الأغراض وكأن الحاجة أصبحت حسب المثل أم الاختراع فأصبح لدينا مثل هذا القاطع الذي به ثلاث أو أربع خطوط وكما يلي: الوطنية .. مولدة الشارع .. مولدة البيت .. والسحب من منطقة أخرى قريبة، لأن البيوت التي تقع بالقرب من منطقة قريبة كان يتم تغذيها بالكهرباء في وقت مختلف عن المنطقة التي يسكنون بها لجأت إلى حيلة السحب من تلك البيوت كي تزداد عندها ساعات التجهيز من الكهرباء الوطنية.
وعشنا أياما وليالٍ كثيرة ونحن منشغلون بتحضير اللالات عصرا كي نستخدمها في الليالي الظلماء واخترعنا حينها قناني الدواء التي حولناها إلى لالات محلية الصنع باستخدام السيلوفين والخيط السميك مع النفط الأبيض وبعض العجين وأصبحنا مختصين بصنعها بحيث لم تعد تُصدر دخانا ولكن بعد أن أسودت جدران البيوت الداخلية منها لكننا توصلنا أخيرا لحل هذه المشكلة.
ولم يصبح لون الجدران الداخلية أسودا فحسب وإنما خلال انتهاء حرب احتلال الكويت وخروج القوات العراقية منها وتعرض أبار النفط فيها للحرق وكانت أيامها ممطرة والرياح قوية بحيث أوصلت سحب الدخان إلى بغداد ومن جراء انهمار الأمطار فقد أسقطت معها ذلك الدخان الذي جعل جدران البيوت من الخارج تتشح باللون الرمادي المائل إلى السواد، لقد كانت أياما قلقة ومحزنة بكل شيء عاشها العراقيون بألم وحسرة ومرارة ليس من جراء كل هذا بل من قوافل الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل مخططات قادتهم الرعناء والذي قال عن رعونته يوما لأحدى الدول الجارة التي حارب ضدها طويلا: لكم ما أردتم !!! … أو الحرب التي كانت فتنة … وغيرها وكأن الحروب كان يتم فرضها على العراق فرضا، فإن كانت مخطاطات استعمارية فلماذا ننفذها نحن كوننا دولة مستقلة ولدينا الرأي المستقل والقرار المستقل؟؟؟
كل هذا وبسهولة كنا نجد المعوقين والجرحى ممن يسكنون حولنا وأقامة مراسيم العزاء في كل شارع وزاوية وكانت مكبرات الصوت تنقل لنا أصوات التراتيل والقراءات التي نعلم من خلالها ان شهيدا جديدا قد تم أضافته لقافلة ضحايا العراق وليس الشهداء فقط لكننا دخلنا منعطف جديد من الخطف والابتزاز …
… وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
Abdullah_naufali@yahoo.com
 
 
 ..