ذكريات من الماضي العراقي القريب (3)

الكاتب: عبدالله النوفلي
 
ذكريات من الماضي العراقي القريب (3)
ولم تكن حال الجسور بأفضل حال من غيرها فهي الأخرى كانت هدفا إن لم يكن لغارات من أحتل العراق فإنها تعرضت لإكمال نصيبها من التدمير على أيدي من يريد أيذاء العراق وألحاق أكبر الأذى به، فجسور كثيرة قد تم تدميرها خدمة لخطة غزو العراق وتقطعت أوصال الكثير من الطرق البرية بسبب تحطيم الجسور وكان طريق بغداد – عمان أو دمشق شاهدا على ذلك بحيث كان يضطر المسافرون سلوك تحويلة خطرة كون الجسر المقام على أحد الوديان قد دمرته طائرات محرري العراق!!! ولا أدري كيف نسمي هذا تحريرا وهم يعودون به إلى عصر ما قبل التكنولوجيا، وإن كان الهدف هو تخليص العراق من الديكتاتورية وصنع ديمقراطية تكون نموذجا لدول المنطقة ما بال الجسور من ذلك، وهل تحطيم هذا الجسر وغيره الكثير كان ضمن خطة أسقاط الدكتاتورية وصنع ديمقراطية تقتدي بها كل دول المنطقة!!!!؟
وقديما كان الشاعر يتغنى بعيون المها ويذكر معها الرصافة والجسر لذلك الأشرار أرادو أن يجعلو من الرصافة بعيدة عن الكرخ كي يرسخوا من مبدأ الطائفية وتبقى جهة لطائفة وجهة أخرى لغيرها وتسهيل عملية المناوشة لأن كل خندق قد تم تحديد هويته!!! أليس هذا مخططا رهيبا بين مخططات كثيرة عايشناها دون أن نستطيع حتى التذمر منها ونحن نعيش الديمقراطية!!! فماذا كان ذنب جسر الصرافية الحديدي الذي شهد أول قطار لنقل الركاب داخل مدينة بغداد في زمن لم تكن دول كثيرة في المنطقة تستخدم هذه الوسيلة للنقل، كان هذا الجسر وسيلة لعبور هذا القطار من الرصافة إلى الكرخ وبالعكس كي يسهل عملية تنقل الموظفين والناس ويجعل من حياتهم أسهل، هذا المشروع حتى بعد أن أصبحت ميزانية العراق مئات الأضعاف للميزانية التي كان عليها العراق زمن أنشاء هذا الجسر وتشغيل هذا القطار لكن لم يتم استحداث مشروع حتى بأقل من مواصفات هذا المشروع لحد اليوم.
نعم لقد قطع الأشرار أوصال هذا الجسر وبتنا نشعر ونحن في الرصافة بأن الكرخ بعيدا وأن مياه النهر تسير مسرعة وتجعل من المراكب التي تقل الناس بين الضفتين تتمايل ذات اليمين وذات الشمال كي تخيف ركابها وتمنعهم من ارتياد هذه الوسيلة وتحكم الحصار على الناس الطيبين من زيارة بعضهم البعض أو مزاولة نشاطاتهم في هذا الجانب او ذاك.
وإن قطع الأشرار هذا الجسر أو ذاك فإن سلطات أخرى قطعت الجسور لقضايا أمنها، فهذا الجسر المعلق الذي وضعت أساساته الجمهورية الأولى وسهل الأمر لأهالي الكرادة من الوصول إلى العلاوي والمنصور وغيرها من المناطق فقد وضع عليه المحتلون سيطرات كثيرة وجدران من الكونكريت بارتفاع ثلاثة أمتار كي يمنعون رؤية ما بعد الجدار وما يجري هناك، وتم فتح الجسر لفترة وجيزة ولكن يبدو أن تسهيل مهمة العراقيين ليس من مهام المحتلين فقد أعادو قطعه وجعله ممرا لهم دون غيرهم بحيث لا تستطيع استخدامه إلى إذا حصلت على هوية خاصة منهم ولم يكن ليستخرجونها لأي أحد إلا بعد تحقيقات كثيرة وصور من مختلف الجوانب وكفيل مضمون لديهم ويأخذون بصمات الأصابع وبصمة للعين والأسنان وكأنك تعبر بعد عبورك الجسر إلى جنة الخلد، فحتى رب العالمين لا يضع هكذا شروط تعجيزية أمام عباده ويدعو ربنا عباده للدخول إلى جناته آمنين مطمأنين لا يخافون شيئا.
وإن حصلت على جواز مرورك عبر الجسر فهناك سيطرات كثيرة في المنطقة التي يسمونها بالخضراء وهناك تجد المتاريس والجدران داخل الجدران كي يعيش المحتل ومن معه آمنا مطمئنا وشبابيكه يحميها أكياس الرمل والذعر باديا على جنود الاحتلال وحتى السفارات التي اتخذت من تلك المنطقة ملاذا لها، فكان الانسان يواجه الكثير من العقبات كي يصل إلى بواباتها وإن لم يكن لك موعد مسبق ومعروف الهوية لهم لم يكن ليسمحوا لك حتى بالتقرب من محرماتها!!!
هذا كله ومسألة السيطرات الوهمية التي كانت تظهر في كل شارع وحارة ولا تعرف من هم وما هية هويتهم ولمن ينتمون ومن هي الجهة التي تقف ورائهم؟ وكانت تحقق في هويات المارة لغاية لا يعرفها فقط هم دون غيرهم ومن كلفهم بالمهمة، حتى لقد بتنا نخاف من أبراز هويتنا الشخصية لهؤلاء لأننا كنا نجهل فيما إذا كانت هذه سيطرة حقيقية تابعة للدولة أم أنها وهمية. ومرة سأل أحد أفراد هذه السيطرات عن هويتي فكنت حينها شجاعا لأسأله ولمن تعمل وهل انت سيطرة حكومية أو تنتمي لجهة غيرها، فكان سؤالي قد أثاره وضحك وتركني أعبر دون أن ينظر إلى هويتي، لأن الجميع في تلك الأيام كانوا مستهدفون ولو أن البعض معروف أنتمائه الطائفي من اسمه لكن هذه السيطرات لم تكن تعرف أنها تؤيد عمرا أو عليا أو حنا أو خوشناو أو خديدة!!! لأن الجميع مطلوبون وكل من هؤلاء هناك جهة متربصة كي تنتقم منه وتجعله في لحظة عمياء وكأنه لم يولد من امه وكانت له أحلام بمستقبل له ولأسرته.
وهذه ذكريات نكتبها كي تكون وثيقة لمن سيأتي كي لا يقع بذات الخطأ الذي وقع به أخوتهم من العراقيين قبل وبعد 2003 ويحافظ الجيل اللاحق على شيء من ماضي وتاريخ أجداده كي يكون منارا للأمم ويعيد شيئا من الهيبة للعراقي وللكرم الذي كان يتكلم عنه لذلك رأيت من مسؤوليتي ان أقوم بتسليط الضوء على حقبة من الزمن كانت قصيرة بوقتها لكن كبيرة جدا بتأثيراتها وعواقبها لأن الكامرة نقلت لنا لقطات تأبى النفس العراقية القيام بها أو أن يقبل العراقي القيام بها ولا أدري مدى صحة ما كانت تنقله تلك الكامرة خصوصا مع الجنود المكسورين والعائدين من واقعة الكويت عام 1991 وما تلاها من زمن أسود جعل الجندي العراقي يقع فريسة سهلة بيد الأعداء ويتجرد حتى من ملابسه كي ينقذ نفسه ولا أحد يعلم لحد اليوم أين رفات العديدين وفي أي بلد انتقل كثيرين وكم من العوائل قد أغلقت أبوابها بسبب الدمار الذي رافق تلك العمليات او لم يبقى أثرا منها وما سبقها من وقت وما تلاه جعل جميع العوائل العراقية تتشتت وتنتشر في جميع أقطار المسكونة، حتى أن أفغانستان شهدت لجوء عوائل عراقية إليها وبينها كانت عوائل مسيحية!!!
فلابد أذا أن نوصل الصوت كي لا تتكرر المأساة ولابد لنا ان نوقف نزيف الدم ونوقف الهجرة المدمرة التي ستغير من ديمغرافية العراق وبلداته ولا أحد يستطيع أن يتكهن كيف سيكون المستقبل لبس البعيد بل حتى القريب منه، فبلد تغيب منه المحبة وتحل محلها لغة الدم والتدمير والق*ت*ل يكون بلدا قاسيا ولا يرغب الطيبون العيش فيه وعندما تحل في بقعة لغة الغابة والقوي والضعيف عندها تكون شريعة الغاب ويكون هناك القوي الذي يأكل الضعيف ويكون البكاء والعويل ويزداد الندم ويختفي الأمل ليحل محلها اليأس الذي يرافقه الموت دائما، فلشعبي العراقي أكتب وله أريد أن يتحرر ويعيش حياة فضلى ويتخلص من رواسب السنين العجاف ولمن منهم أصبح في بلد يمكنه رفع صوته أن يفعل لا بلغة الانتقام بل كي يحل النظام وتنتهي الفوضى وننقل تجربة الغربة بما فيها من ومضات لامعة إلى بلدنا ونضع أيدينا بأيدي بعض ويعيش الجميع تحت الخيمة الواحدة ونشرب من دجلة والفرات ونغني مع الشاعر أشعار الحب مجددا ونسمع تغريد العصافير وتختفي الأصوات النشاز والأخبار النشاز كي تعود القيثارة تعزف مجددا تراتيل الأمل وتكون بيوتنا آمنة والأطفال يمرحون بحرية في المنتزهات.
… وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
Abdullah_naufali@yahoo.com
 
 
 ..