دور منكيش في زمن آبائنا … تصميمها ومراحل تطورها 

دور منكيش في زمن آبائنا … تصميمها ومراحل تطورها 

 بقلم / وردا إسحاق قلّو 

صورة منكيش الآباء لسنة 1978

بعد تناولنا موضوع ( التصميم المعماري لدور منكيش ومحتوياتها في زمن أجدادنا ) وعلى الرابط التالي :

التصميم المعماري لدور منكيش ومحتوياتها في زمن أجدادنا (mangish.net)

      ننتقل إلى دراسة أخرى نبحث فيها عن تفاصيل بناء دور آبائنا التي ولدنا وترعرعنا فيها والمبنية من طابقين ، في هذه المرحلة دخل العمران في مرحلة جديدة من التطور ، ففي زمن أجدادنا قبل عام 1940 لم يحدث أي تحسن في الظروف الأجتماعية والعمرانية والثقافية وذلك لأن التطور يحتاج إلى نقلات جديدة مع العصر في درب الحضارة والتقدم ، والتطور يأتي بسبب التبادل التجاري والثقافي وتحسين الحالة المعاشية للوصول إلى ما هو أفضل ، وسبب ذلك الركود في العمران خاصةً كان المستعمر العثماني في المنطقة . ففي زمن آبائنا حدث هذا التطور النسبي ، وبعد تأسيس الدولة العراقية عندما رفع الأضطهاد وتوقف دفع الرسوم الإجبارية من المحاصيل النباتية والحيوانية لتلك السلطات المستعمرة لمناطقنا ، بدأ التطور في كل تفاصيل الحياة ، ثم حدثت قفزة نوعية في البناء الذي ألغى نظام الطابق الواحد والعيش مع الحيوانات إلى نظام بنار الدور من طابقين لكي تعيش العائلة بعيدة عن حضائر الحيوانات . فصمم الطابق العلوي من ثلاث غرف ، واحدة لنوم العائلة ليلاً على الأرض  والإستراحة فيها نهاراً وخاصةً في فصل الشتاء ، يتوسط الغرفة موقد معدني يربط به أنبوب لتفريغ الدخان الناتج من حرق الحطب ، وبعد منتصف السبعينات ظهرت أنواع أخرى أكثر جمالاً ونظافة من المدافىء الخشبية يستخدم فيها النفط فقط للتدفئة ، تصميمها يشبه المدفأة الخشبية ، كانت كرة معدنية تحتوي على النفط فوق المدفأة ، كانت تنضح نقاط من النفط على الرماد الموجود في أرضية المدفأة ليحترق ، والدخان الناتج من عملية الأحتراق يخرج من أنبوب التفريغ فوق المنزل ، وبعد ذلك ظهرت أنواع أخرى من المدافىء الحديثة صغيرة الحجم ومجردة من أنبوب التفريغ فأنتهى دور المدافىء القديمة ودور ( قجا دنعمي ) كما ظهر مشعل غازي مربوط بالصاج الذي يصنع عليه الخبز المعروف ب ( رقي ) فأنتهى دور الكنونا أيضاً .

    أرضية الغرفة كانت تفرش بالكنبار الذي كان يجلب من الموصل والذي حل محل ال ( طحتة ) ، وبعد ذلك ظهرت سجادات صغيرة رخيصة وخفيفة ، وبعدها ظهرت السجادات الكبيرة .  أما الغرفة الوسطية التي تسمى ( صّوبا ) فكانت تستخدم للجلوس في فصل الصيف ، والجلوس للراحة لم يكن على الكراسي بل على الأرض التي تفرش بجانب الجدار مع وضع الوسائد للإتكاء . وبعد ذلك قام نجاروا القرية بصنع الأسِّرة الخشبية المسماة ( تختي ) للجلوس والنوم . وفي السبعينات بدأت تلك الأسرة بالأختفاء لظهور أسرة معدنية وقنفات وكراسي خشبية فألغي نظام الجلوس على الأرض الذي ما يزال موجوداً في القرى المحيطة . وفي الغالب كانت ( الحِب ) تحتل زاوية من هذه الغرفة والتي كانت تملاْ بالماء وتحتها إناء صغير يستقبل قطرات الماء التي تنضح من الحِب . أما الغرفة الثالثة المسمى ( بِستري ) فكانت تستخدم لخزن المواد الغذائية كالطحين والح*بو-ب في حاويات معدنية تسمى ( إصرا ) والتي حلت محل ال ( كّواري و مزيذي ) التي كانت تستخدم في زمن الأجداد والآباء . كما كانت الغرفة تحتوي على الدهن الحر او الصناعي وسنادين ( القلي والجبن ) وجلود الحيوانات التي كانت تحتوي على عظام المسلوخ منها اللحم لصناعة ال ( قَليّا ) تسمى (دَرفي ) وكذلك تحتوي على سلة كبيرة لحفظ الخبز تسمى ( زَبيرا ) . كما كانت تحتوي على لفة كبية من القماش يحفظ فيها ملابس العائلة تسمى (  بُقجا   ) أختفت بعد صناعة الخزانات الخشبية للملابس المسمى ( كانتور ) . كذلك كانت جدران الغرفة تحتوي على خزان صغير لوضع بعض الحاجيات يسمى ( دُلابا ) ولبعضها أبواب تقفل . كان السطح يتكون من أخشاب الإسفندار ( خورياثا ) وفوقها يأتي صف من الأوتاد الرفيعة المسمى ( أوراثا ) التي تغطى بطبقة من أغصان الأشجار التي كانت تحتوي على أوراق  ، ومن ثم تاتي طبقة من التراب .لأجل جمالية السقف أستخدمت بعض العوائل الحصران التي كانت تجلب من المدينة لتضعها فوق تلك الأعمدة الخشبية مع إستخدام أسلاك معدنية المسمى ( تيل ) لحمل الحصير وفوقه ترتب الأعمدة الرفيعة ومن ثم أغصان الأشجار وفوقها التراب ، أما حافات السطح الخارجية المسمى ( سوانا ) فكانت الغاية منها لحفظ الجدران من مياه الأمطار وخاصةً من الجهة الخارجية فكانت حافاتها تمتد إلى الخارج نحو 80 سم ، يتم تشكيلها بوضع ( سِكِرتا ) فوق الأوتاد الرفيعة المسمى ( أوراثا ) ، ومن خصائص السِكرتا ، تقاوم التلف لفترة طويلة وتكون خفيفة الوزن وفوقها يتم وضع أغصان الأشجار التي تحمل التراب .

 بعض العوائل كانت تضيف شرفة أمام الطابق العلوي تسمى ( كِلَّري ) أم الصّوبا في أغلب البيوت كانت أرضيته تبلط بالأسمنت كباقي الغرف فتحررت المرأة من دلك الغرفة بإستمرار  بالحجر المفلطح المسمى ( دلّوكا ) كما قل التراب الناتج من كنس الغرفة . كانت كِلّري تحاط بسياج معدني جميل يصنع من قبل الحدادين المحليين الذي بدأوا بالعمل بهذه المهنة بعد منتصف السبعينات ، وكان يضاف في زوايا ( كِلّري ) أعمدة من حديد تحمل أوتاداً خشبية أو حديدية  لغرض عمل مظلة صيفية تسمى ( قُبرانا ) كما كان يربط حبال من السلك المعدني أو حبال مصنوعة من مادة النايلون تسمى (شَرَفتها ) لغرض نشر الملابس المغسولة .  والبعض كانوا يزرعون أشجار العنب بجانب الشرفة لكي تتسلق وتغطي السقيفة من أجل الحصول على الظل وعلى منظر العناقيد المتدلية من السقف ليزيد المكان جمالاً ، إضافة إلى الأستفادة من ثمارها وأوراقها . والحداد المنكيشي أبدع في صناعة الشبابيك والأبواب الكبيرة والصغيرة وغير ذلك ، فأستبدلت العائلة المنكيشية نوافذها الخشبية الصغيرة بالمعدنية الكبيرة ، وأبوابها القديمة بأبواب معدنية جميلة ومزخرفة ، فظهرت البيوت بمنظر جميل . أما شوارع القرية بسبب الخدمات البلدية الحديثة في تنظيف الشوارع والأزقة فرضت قوانين لأجل منكيش أنظف ، وتم تزويد كل منطقة  بحاويات كبيرة لجمع نفايات كل حي . كما تم توظيف أكبر عدد من عمال التنظيف . ومنعت البلدية تربية الحيوانات داخل البيوت فنقلت إلى أسطبلات خارج القرية .

زقاق

 الغرف العليا كانت جدرانها تُبَيَض بتراب أبيض جيري يحصل عليه من مقلع خاص ترابه أبيض يسمى ( مَقرخانة ) والواقع شرق القرية في أرض ( عيسكا ) فكان يخلط التراب الأبيض مع الماء مع وضع كمية من التبن الدقيق المسمى ( دَكثا ) فنحصل على اللون الأبيض الناصع ، وبعد ذلك يبدأ العمل بطمس قطعة قماش جيداً في المحلول الأبيض ويمسح به الجدار إبتداءَ من الأعلى إلى الأسفل وبشكل متجانس وكأنه مصبوغ بالفرشاة ، وتبييض الجدران لم يكن موجوداً في منكيش الأجداد . أما الغرف السفلى فكانت الجدران تغطى بالطين فقط . الصعود إلى البيت كان عن طريق درج مبني من اللبن أو الحجر ومن ثم يغطى بطبقة من الأسمنت . أما الصعود على السطح من ( كِلّري ) فكان يستخدم درج خشبي ، وكان أحد أطرافها أقصر من الآخر وذلك لكي لا تستخدم لأغراض أخرى . أو كان مكان الدرج في الداخل من الطابق العلوي لصّوبا  إلى السطح عن طريق فتحة تسمى ( بَرزوما ) وفتحة البرزوما كانت تظلل بواسطة صفائح معدنية تسمى ( طَنِكي ) أو ( تُتيا )  لكي تمنع دخول مياه الأمطار إلى داخل البيت . وعلى كل سطح نجد دواسة حجرية تسمى ( مِندروني ) تستخدم لدلك السطح لكي لا تتسرب مياه الأمطار داخل السطح وإلى غرف الطابق العلوي .

بعض البيوت كانت تحتوي على ( صّوبا ) خارج الغرف الثلاثة واجهته مفتوحة إلى المنظر المقابل للبيت ، جزءاً منه كان يرتكز سقفه على جدرانين ، أما الباقي والمفتوح إلى الخارج من جهتين كان يرتكز على عمود عرضه متر مبني من اللبن ليحمل عمودان من الأسفندار من جانبين والتي كانت نصف ثقل السقف وكما في الصورة التالية :

   أما الطابق السفلي من البيت فكانت عدد غرفه بعدد غرف الطابق الأعلى وبنفس الحجم ، فالغرفة الواقعة تحت غرفة النوم كانت مخصصة لخزن العلف الحيواني ، تسمى (بِتوني ) أي بيت التبن .  يخزن فيها الحشيش الملفوف والمسمى ( بثيلي ) والتبن بنوعيه ، الكبير والناعم الذي يسمى ب ( دكثة ) المستخدمة لخلطها مع التراب والماء للحصول على طين الخاص بلبِغ الجدران والأرضيات . أما التبن فكان يستخدم كعلف للحيوانات وكذلك لنثره فوق السطح قبل الشروع بدلك السطح بالدواسة الحجرية ( مِندروني ) كما كان يستخدم في صناعة ال ( لّبَن ) . أما سبب إختيارغرفة ال ( بتوني ) تحت غرفة النوم هو للتخلص من رائحة فضلات الحيوانات الموجودة في الغرف الأخرى إلى الأعلى .

الغرفة التي في الوسط أي تحت ال ( صّوبا ) فكانت مخصصة للحمير والأبقار فكانت أرضيتها مكسوة بالسماد الحيواني ، وكان رب البيت ينقله في بداية الربيع إلى حقوله  ، وكانت الغرفة تحتوي على ( أوري ) التي كان يوضع فيها العلف الخاص لإطعام الحيوانات  .

أما الغرفة الثالثة الواقعة تحت غرفة البستري فكانت مخصصة لحفظ الفواكه والخضراوات كالرمان والكمثري وخاصة التي لم تنضج كنوع ( أحموي ) الذي كان يحفظ بكميان من التين يتم وضعها على مرتفع خشبي ، وكذلك التفاح والبصل والثوم … إلخ وأكثر العوائل كانت تعد الأرضية من السمنت . كان البعض يقسم الغرفة إلى أقسام . قسم لأيواء الخراف والآخر يخصص كمسكن للدجاج يحتوي على (قاري ) تسكن الدجاج عليه ، كما يحتوي على ( برَقِنذأ ) أي بيت قَنا ، أي عش الدجاج ،  تصنع من ال (تورا ) تسمى ” قِرطالة ” مع وضع كمية من التبن في أسفلها لترمي الدجاج بيضتها على التين . كما كانت تخصص أماكن لتفريغ الدجاج الخاص ل ( قّبي )  التي كانت ترقد عليه 21 يوماً .

كان جزء من تلك الغرفة يخصص للخراف ، وكان قسم منه يقطع بسياج لغرض إيواء الجداء الصغيرة لكي لا ترضع حليب أمهاتها قبل حلبها . وكان يوضع في منتصف غرفة إلأغنام أخشاب على شكل ( واي ) الأنكليزية ، وذلك لغرض وضع أغصان الأشجارعليها لكي تتناول الأغنام من أوراقها ، والتي تسمى ب ( دّوني ) .

بدأت العائلة المنكيشية بالتطور منذ بداية الستينات عندما قامت بلدية منكيش بإيصال مياه الينبوع الكبير ( نَبؤا ) بالأنابيب إلى ثمان أحياء وكما ذكر دكتور عبدالله رابي في كتابه ( منكيش بين الماضي والحاضر ) ، فأنتهى زمن نقل المياة على الأكتاف من العيون أو الذهاب للغسل والإستحمام عند شلال ( الخرخيرا ) وغيره ، وبعد ذلك تم إيصال الماء إلى كل بيت ، فقامت كل عائلة بتشييد الحمام ( بي مجري ) ودورة المياه ( ججما ) .

كانت العائلة المنكيشية تفضل بناء البيوت من اللّبن بدلاً من الحجر رغم كثرته لأن اللبن ردىء التوصيل للحرارة ، والمواد الطينية أفضل من الصناعية كالأسمنت لأن الطين يمنح للمنزل مناخاً صحياً ، ويعدِل نسبة الرطوبة التي يمتصها من الهواء المحيط ويحافظ على درجة الحرارة أو البرودة أكثر من البناء الأسمنتي . سندخل في تفاصيل هذا الموضوع عندما نعرض موضوع منكيش الأبناء الحديثة  .

   ظهر في فترة السبعينات عندما كان العراق يعيش في الرخاء الأقتصادي والأمني ، فكانت الدولة تقدم خدمات كثيرة وسخية لكل محافظات العراق فبدأت بتبليط الشوارع وازقة منكيش .

 كذلك زودت منكيش بمحرك كبير لتوليد الطاقة الكهربائية فتحررت القرية من ظلام الليل بعد أن حلت المصابيح الكهربائية محل المصابيح النفطية المعلقة على جدران بعض البيوت . كما أنتهى دور المصابيح النفطية ( لمبا وفانوسا التي كانت سبب إنتهاء دور الشرئا ) وصار لكل عائلة براد وتلفزيون ومروحة فبدأت الكثير من الحاجيات القديمة بالإختفاء مثل ( الحِب والكرازة ، وسلة تقديم الخبز” بثورتا ” وغيرها )  وبعد ذلك وصلت خطوط الضغط العالي لتستمر القوة الكهربائية العالية القدرة  بدون إنقطاع فجلبت العائلة المجمدات والمبردات والمكواة الكهربائية التي قضت على دورالمكواة الفحمية وعلى زير القليا وعلى جلود الحيوانات المسماة ( دَرفا )  المستخدمة لخزن عظام اللحوم بعد فصل اللحوم منها للقلية وكذلك عظام الرأس ، كما كان يحفظ فيها الكرشة والأمعاء .كذلك أختفى دور المَشكى ( كّوذا ) وغيرها  .

أطلب من المعلقين الذين لديهم صورة لدارهم من الداخل أو الخارج  نشرها مع التعليق .

Exit mobile version