مقالات

الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن -6

هل انتهى “القرن الأمريكي الجديد” ليحل محله قرن متعدد الأقطاب؟

كان قادة واشنطن يصفون القرن الحادي والعشرين بأنه “القرن الأمريكي الجديد”، فلماذا أصبح هذا الأمر من الماضي؟ وهل تقبل الولايات المتحدة بتقاسم قيادة النظام العالمي مع الصين؟
ففي مطلع القرن الحالي كانت أمريكا تهيمن على النظام العالمي بلا منازع، وغزت أفغانستان والعراق دون اكتراث بالرفض العالمي، ولعبت دور “دركي العالم” لنحوأكثر من عقدين من الزمان، لكن السنوات القليلة الماضية شهدت انقلاباً في موازين القوى بشكل واضح.
الأمريكي تناولت الكثير من الابحاث و الدراسات هذا الانقلاب واحتمالاته وكادت تتفق على توديع ” القرن الأمريكي بلا رجعة “والاعترافً بالثلاث العظام على الاقل”، فمنذ وقت ليس ببعيد كان المحللون السياسيون يتحدثون عن القوتين العظميين، أي عن ذلك التحالف العملي المحتمل بين الولايات المتحدة والصين، الذي يهدف إلى إدارة المشاكل العالمية من أجل المنفعة المتبادلة بينهما، إذ كان يُنظر إلى مثل هذا القطب الثنائي على أنه يحتمل أن يكون أقوى من مجموعة الدول السبع الكبرى للاقتصادات الغربية الرائدة.
وكانت هذه الفكرة أرضية و أساس التواصل الأوَّلي لإدارة أوباما مع الصين، رغم أن الفكرة فقدت جاذبيتها في واشنطن مع استمرار التوترات مع بكين في التصاعد بشأن تايوان وقضايا أخرى. ومع ذلك كان أهم درس الحرب في أوكرانيا حتمية الانفتاح الأمريكي على تشارك قيادة النظام العالمي مع الصين، بغض النظر عن رغبات قادة واشنطن، وإلا فالبديل هو الحرب المفتوحة.
كما رآى المحللون والمراقبون وجوب حدوث تطور في الجغرافيا السياسية، مع الهند أيضاً، وهي في المقام الأول الدولة الناشئة المسلحة نووياً هي الآن الأكثر اكتظاظاً على الكوكب واقتصادها أيضاً. من أكبر الاقتصادات العالمية.
وظل سؤالان بارزين: لماذا هذه المجموعة الثلاثية من الدول، ولماذا من المحتمل أن يكون ظهورها نتيجة حتمية للحرب في أوكرانيا؟
من جانب موسكو فشلت رغبتها في تحييد أوكرانيا ومنعها من الارتماء في أحضان الغرب بالقوة، وبالنسبة لواشنطن فإن الهزيمة المطلقة لروسيا وزوال فلاديمير بوتين مازال سيناريو بعيد المنال. وبات من الواضح بشكل متزايد أن الصين والهند من المرجح أن تلعبا دورا هاما في النتيجة النهائية لتلك الحرب، إذ لا يمكن لروسيا أن تستمر في القتال بدون دعم هذين البلدين، وذلك بفضل رفضهما الالتزام بالعقوبات الغربية القاسية المفروضة على بوتين، واستمرار تجارتهما مع موسكو، ومشترياتهما الضخمة من احتياطيات الوقود الأحفوري الروسي. بالإضافة إلى ذلك، لا يريد أي من هذين البلدين تصعيد الحرب أو إطالة أمدها، نظراً للضرر الذي تلحقه بآفاق النمو العالمي.
في ذات الوقت ، قد تكون الحرب في أوكرانيا قد كشفت نقاط ضعف في الجيش الروسي ، إلا أنها كشفت أيضاً عن حدود القوة الأمريكية. ففي المقام الأول، عندما بدأت الحرب في فبراير 2022، كان الرئيس جو بايدن واثقاً من أن معظم العالم سينضم إلى الولايات المتحدة وأوروبا في عزل موسكو، عن طريق وقف مشتريات إمدادات الطاقة الروسية وفرض عقوبات صارمة على هذا البلد، من بين طرقٍ أخرى. فبالنسبة لبايدن كان القرن الحادي والعشرون لا يزال القرن الأمريكي كالمعهود. فقد ظل يردد
شعار “أمريكا عادت لقيادة العالم”، رغم أن منتقديه اعتبروه شعار يعود إلى أجواء الحرب الباردة الماضية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، و أن محاولات بايدن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء محاولات فاشلة.
لقد ولج العالم حقبةً جديدة لم تُحدَّد ملامحها النهائية كليا بعد، لكن أبرز ما يميز هذه الحقبة هو تضاؤل النفوذ العالمي للولايات المتحدة. ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها واشنطن وحلفاؤها في الناتو للحد من المنافذ التي تصل بها روسيا إلى الاقتصاد العالمي، نجحت موسكو إلى حد كبير في الحفاظ على نفسها حتى أثناء تمويل “العملية العسكرية” الأكثر تكلفة في أوكرانيا. والفضل في ذلك رجع بشكل كبير للصين والهند، اللتين واصلتا شراء كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي الروسي حتى لو بأسعار مخفضة للغاية.
كما فشلت واشنطن إلى حد كبير في إقناع معظم دول الجنوب، بما في ذلك القوى الصاعدة الرئيسية مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، بتبني وجهة نظر الرئيس بايدن في حرب أوكرانيا على أنها صراع “وجودي” بين الدول الديمقراطية الليبرالية والدول الأوتوقراطية غير الليبرالية.
لكن خارج أوروبا، لم تلقَ مثل هذه التصريحات الرنانة آذاناً مصغية إلى حد كبير، حيث أكد القادة غير الغربيين على احتياجاتهم الوطنية، وشجبوا نفاق الغرب عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن “القواعد” العالمية التي يدعي احترامها. وقد اشتكوا على وجه الخصوص من الطريقة التي أدت بها مثل هذه العقوبات المفروضة على روسيا إلى رفع أسعار المواد الغذائية والأسمدة في بلدانهم، ما أضر بالملايين من مواطنيهم.
أن نتيجة حرب أوكرانيا لا تزال موضع التقييم،لكن الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكداً هو بروز الصين والهند كلاعبين رئيسيين فيما يتعلق بقرار تلك الحرب النهائي، وهذا القرار سيساعد في تحديد النظام العالمي المستقبلي، نظام يتعين على الولايات المتحدة فيه تقاسم مسؤوليات الريادة العالمية مع الصين والهند، القوتين الكبريين في العالم بخلاف الولايات المتحدة، بحسب تحليل العديد من المحللين.
علما أن أوروبا تبدو غير مؤهلة للعب مثل هذا الدور بسبب انقساماتها الداخلية واستمراراعتمادها على القوة العسكرية الأمريكية، كما أن روسيا غير مؤهلة لذلك أيضاً، وذلك بسبب تراجع قوتها العسكرية والاقتصادية. ومع ذلك لدى دول مجموعة الثلاث بعض الخصائص الأساسية التي تميزها عن جميع القوى الأخرى، ومن المرجح أن تصبح أكثر وضوحاً في المستقبل.
فبخصوص الساكنة، في 2022 كان لدى الصين والهند والولايات المتحدة أكبر وثاني وثالث أكبر عدد سكاني في العالم، حيث بلغ عدد سكان الدول الثلاث مجتمعة ما يقدر بنحو 3.2 مليار شخص، أي ما يقرب من 40% من جميع سكان هذا الكوكب. بينما من المتوقع أن تتفوق الهند على الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان قريبا، ولا يزال من المرجح أيضا أن تظل تلك البلدان الثلاثة على رأس التعداد السكاني إلى حدود 2050، حيث سيبلغ سكانها ما يُقدَّر بنحو 3.4 مليار شخص آنذاك. بالطبع لا أحد يعرف كيف يمكن للمجاعات الكبرى أو الأوبئة أو الكوارث المناخية أن تؤثر على هذه الأرقام، لكن هؤلاء السكان- هم راسمال بشري – قد يمنح مزايا هائلة عندما يتعلق الأمر بالإنتاج والاستهلاك وحتى إذا لزم الأمر القتال في الحروب.
وهناك عامل النفوذ الاقتصادي؛ فحسب التقارير لطالما احتلت الولايات المتحدة والصين المركزين الأول والثاني في اقتصاديات العالم، في حين صعدت الهند إلى المركز السادس، وإن كانت لا تزال وراء اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة. مع ذلك من المتوقع في بعض التوقعات ستصل إلى المرتبة الثالثة بحلول 2030. ستشكل مجموعة الدول الثلاث معاً أكبرحصة من النشاط الاقتصادي العالمي مقارنة بعشرين دولة مجتمعة، بما في ذلك كل الاقتصادات الأوروبية واليابان. ويُفترض على نطاق واسع أن الولايات المتحدة والصين تمتلكان أكبر وأقوى جيشين من أكبر وأقوى في العالم، ولا تزال روسيا تحتل المركز الثالث، رغم تقلُّص جيشها بشدة بسبب الحرب في أوكرانيا، ومن غير المرجح أن تستعيد قوتها لسنوات، هذا إن تمكَّنت من ذلك.
وجيش الهند كبير ، حيث يقدر عدد أفراده- بنحو 1.4 مليون – مقارنة بـ2 مليون في الصين، وأقل من مليون في روسيا، و1.4 مليون في أمريكا)، لكنه ليس مجهزاً جيداً بأسلحة متطورة مثل الثلاثة الأخرى. ومع ذلك ينفق الهنود مليارات الدولارات على شراء أنظمة قتالية متقدمة من أوروبا وروسيا والولايات المتحدة. ومع زيادة حصتها من الثروة العالمية، اعتُمدت على نيودلهي على استثمار المزيد من الأموال في “تحديث” قواتها المسلحة، إذ قفز الإنفاق العسكري الهندي بأكثر من 50% خلال السنوات العشر الأخيرة، بحسب تقرير الإيكونوميست البريطانية.
فما هي فرص التعاون بين أمريكا والصين والهند؟
من الواضح أن الصين والهند والولايات المتحدة-إن تكتلت- ستهيمن على الأرجح على أي نظام عالمي في المستقبل، لكن هذا لا يعني أنها مُقدَّر لها هكذا تعاون، فالعكس تماماً هو الأقرب للواقع،إذ ستظل المنافسة والصراع بلا شك سمة دائمة لعلاقاتها، حيث تتضاءل الروابط بينها باستمرار، لكن الشيء الأكيد الوحيد هو أن أي مشكلة عالمية كبرى، سواء تعلق الأمر بتغير المناخ، أو كارثة اقتصادية، أو جائحة أخرى، أو حرب على غرار أوكرانيا، لن تُحَل إذا لم تستطع تلك القوى الثلاث اكتشاف شكل من أشكال التعاون، حتى وإن كان بشكل غير رسمي.
وبينما أصبحت الهند أقرب إلى الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة- إلى حد كبير لتحقيق التوازن بين القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين- فإن قادتها يكرهون أن يصبحوا معتمدين بشكل مفرط على أي قوة أجنبية، بغض النظر عن قربهم من الناحية السياسية. وبالتالي فإن التكهن الأساسي يتمثل في استمرار العلاقات الهشة والمتوترة في كثير من الأحيان بين دول مجموعة الثلاثة.
ومع ذلك، لن يكون أمام هذه الدول الثلاث خيار سوى التعامل مع بعضها البعض بطريقة ما، عندما يتعلق الأمر بالمشكلات العالمية الكبرى التي تواجهها جميعاً
__________________________
رابط لتحميل كراس جميع الاجزاء مع مرفقات
https://www.4shared.com/web/preview/pdf/q0jk9b6uge?

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!