الحوار الهاديء

الطفل ما بين لغته السريانية ولغة الام المبتكرة !

الكاتب: اوراها دنخا سياوش
الطفل ما بين لغته السريانية ولغة الام المبتكرة !
من المعلوم مدى تأثير اللغة على الانسان وخصوصا المراحل الاولى لنشأته، والأم التي سميت لغة الانسان الاصلية باسمها، لها الاثر الاكبر في تعلم الطفل للغة اهله وملته. وسواء كانت الام ذو خلفية ثقافية جيدة ام لا فان الطفل سوف يستقبل ما يسمعه وبالتالي يتعلمه، بغض النظر عن الخلفية، فهو كما يعلم الجميع صفحة بيضاء يسهل الكتابة عليها.
ان شدة الحب الذي تكنه الام لأولادها ، والمغالاة في تدليله تجعلها، ومن حيث لا تدري، تربك الطفل في تعلم اللغة بصورة صحيحة. فالدلال والمحبة يجعلها تستخدم كلمات غايتها تدليل الطفل وتسهيل الاتصال بينهما عبر كلمات محورة بعض الشي، ومضحكة ايضاً. ان عاطفة الام تجعلها تنسى ان الطفل يتعلم بالضبط ما يسمعه، وان كان لا يستطيع لفظ بعض الحروف في بداية الامر لكنه سيتمكن من لفظها بعد حين وبالصورة الصحيحة، كل المطلوب هو التحلي بالصبر… لكن شعور الام يطغي على تفكيرها، وقلبها وحنيتها تكون مانعا في التحلي بالصبر وتصر على ان تكلم طفلها بلغة الطفل التي صارت تتوارث بين اجيالنا وفي جميع القبائل والعشائر، واصبحت مثل هذه الكلمات موحدة كالزي الموحد الجامعي ايام الزمن الجميل.
وهنا وفي هذا المشهد سأورد بعض الكلمات المحورة التي تستخدمها امهاتنا اثناء التكلم مع طفلها، وسأضع هذه الكلمات بين قوسين.
المشهد الاول
بينما الام في المطبخ تعد الطعام، يصل الى مسامعها صوت طفلها وهو يبدا بالبكاء بعد نهوضه من النوم. تتجه الام الى حيث الطفل، تطقطق بنعالها، متقصدةً كي تُطمئن الطفل بانها قادمة اليه، من خلال صوت نعالها الذي يعرفه الطفل، فيبدأ صوته بالخفوت مع اقترابها اليه.
ـ ثيلي … ثيلي… مالي (بابوني !) ؟ كپينيليه أزيزت تلبّي ؟
ومع رؤيته لامه ينقلب البكاء الى ضحك، ويبدأ بمرجحة يديه ورجليه في الهواء في انتظار ان تحمله بين ذرعيها كما تعود كل يوم… تنحي الام وترفع طفلها بذراعيها، وترشقه بسيل من القبلات التي يستسيغها، والتي تزيده فرحا وسعادة. فتكرر الام مقولتها:
ـ رشليه (بابوني !)… ويذتوا (لَلّو !)… كپينيليه (بابوني !)… بيّت (پپو !) ؟
 و(لَلّو !) معناها نائم، وپپو معناها طعام كما يعرفها جميع الكلدوآشوريين.
فتبتسم محيا الطفل، لأنه اصبح يعرف ما المقصود بـ(پپو !)، وللحال تحمله معها الى حيث المطبخ وتلتقط قنينة الحليب الذي اعدته، وصارت تلوح به امامه، وهو يبدو سعيدا امام حركة القنينة، التي يعرف ما بداخلها… انه الـ(پپو !) المفضل… اقصد الطعام!
ـ اوذت (هَممْ هَممْ !)، والـ(هَممْ !) هي عملية الاكل بلغة الطفل ! وهناك من يضغط على هذه الكلمة ويقول : (عمم عمم !) وهنالك من يضغط ويدلل الكلمة ويلفظها : (عمي عمي !)
  ثم اتجهت الى اقرب سرير ووضعته على ظهره، وهو فرح ومسرور لأنه سيباشر بالـ(هَممْ هَممْ !). وضعت قنينة الـ(پپو !)، الممّية، ذو الغطاء البلاستيكي في فمه، في حين امسك هو بالقنينة وصار يشرب ما في فيها، عن طريق مص الحليب من ثقوب الغطاء البلاستيكي.
المشهد الثاني
 انتظرت الام الى ان فرغ الطفل من الـ(پپو !)، عندها اخذت القنينة وذهبت بها الى مغسلة المطبخ. بعد حين سمعت صوته وكانه يناديها، لشعوره بالوحدة سريعا، فاتجهت اليه مرة اخرى، بعد ان فرغت من تنظيف القنينة. وقفت الام امام السرير حيث الطفل ممددا على ظهره يمد يده الى الامام في انتظار ان تحمله. انحنت الى الامام واضعة يديها على جانبي الطفل وهمت ان ترفعه عندما سمعت صوت صادر من تحته وبالضبط من خلفيته…طرررررررررر!! ضحكت الام بوجه طفلها، وكأنها لا تريد احراجه ثم قالت:
ـ مو وذله (بابوونيييي!) ؟ وذلوخ (عَعّي !) ؟
 بالتاكيد الجميع يعرف ما هو الـ(عَعّي!)، فكل البشرية تأكل الـ(پپو !) الذي يتبعه  الـ(عَعّي !). فقررت الام تنظيفه قبل حمله، فصارت تنزع ملابسه، ثم تمسك بأنفها بين آونة واخرى، وتنظر الى عيني الطفل وتقول : اففففففف..اففففففف.. ريخت (تعَعّوخ !) ليلي بسيما !
بالتأكيد لا يوجد (عَعّي !) ذو رائحة زكية، لكنها تريد ان تنبه الطفل الى رائحة الـ(عَعّي !) لا اكثر، بالإضافة الى، تعليمه لغة الجسم، من خلال وضع اصبعها على انفها، والافئفة بطريقة تجلب النظر. واستمرت بتنظيف الطفل جزئيا لحين تحميمه، وهي تردد بصوت مسموع لطفلها:
ـ خلي لبت (تدندولخ !) .. خلي لبت (تدندولت دبابوني!).
 والـ(دندول !) هنا هو الجزء الظاهر من الجهاز البولي للطفل، الذي يكون محببا في هذه الفترة قبل ان يصبح عورة !
اخذت الام تحضر الطشت والماء الساخن كي تحمم طفلها بعد ان رفعت حفاظته. خلعت ملابسه وهي مستمرة في الكلام:
ـ اوذني تا بروني (بشوبشو !)، وهذه معناها الاستحمام !
المشهد الثالث
  الام حاملة طفلها، وتخرج الى حديقة الدار ليصادفها احد الصراصر الحمراء ذو الشاربين الطويلة والمقززة، فتقفز بسرعة وتدعسه بنعالها، مما يتسبب في موته مع طقطقة تصدر من تحت قدمها، فتنظر الى طفلها الذي يراقب الحدث وتكلمه بصيغة الحذر:
ـ اوووووو (چوچووو !). وهذه الكلمة، اي الـ(چوچو !)، هي بحد ذاتها تحوي على اسماء جميع الحشرات البرية، والجوية والبحرية، وحتى في معظم الحيوانات الدابة، ما عدا الكلب الذي تعرف الطفل عليه من خلال كلمة (عوعو !) كلما خرج كلب الجيران الى الحديقة، مرحبا بعوائه، وهازا بذيله عند رؤية الام وطفلها.
 ومع اقترابها من الباب الرئيس، حتى تمر سيارة ينتبه اليها الطفل ويرفع سبابته مؤشرا باتجاهها، وللحال تدرك الام ما يريده الطفل فتوضح له ان هذه اسمها (عنعن !) من خلال التظاهر بالمفاجأة، ورفع سبابتها هي الاخرى مؤشرة باتجاه السيارة:
ـ أي !! خزيلوخ (عنعن !) ؟
استمرا يراقبان الـ(العنعن !) حتى اختفت. اتجهت الام الى صندوق صغير مملوء بدمى الاطفال واجلست الطفل بقربه بعد ان فرشت تحته قطعة قماش، وقربت الصندوق اليه، فصار يمد يده ويخرج الالعاب وهي بجانبه، تلعب معه، وفي نفس الوقت تهيئ مواد الطبخ… صدر من الطفل صوت اشبه بالبكاء، عندها نظرت الام لترى ان احد الالعاب قد علق في اصبعه، فتمد يدها لمساعدته على التخلص منها متسائلة :
ـ اوي اوي اوي… مريلا (تتّوخ !) ؟
 والـ(تتّا !) هنا معناها اليد !
 اما القدم او الرجل فهي الـ(پپّا !) او الـ(پپّيه !)، فعندما تريد ان تلاعبه، تمسك الام طفلها من كلتا يديه وتعلمه المسير تقول له : (پپّيه پپّيه !)، اي بمعنى امشي على قدميك !
هذه المشاهد الثلاثة هي في الحقيقة جزء صغير من مشاهد للحياة اليومية التي مررنا بها ونحن اطفال تعلمنا فيها لغة الطفل التي انتقلت وتعممت على جميع ابناء شعبنا بكافة انتماءاتهم القبلية والعشائرية، بحكم التجانس القومي والديني. انني استطيع ان اجزم انه لو تمكنا من جمع الكلمات المستخدمة مع الاطفال من كافة الانتماءات فأنها ستتشابه ان لم تتطابق. فـ(ممّا!) تعني لخما اي خبر، و(ططّا!) تعني طفل، و(للّو !) تعني نوم، وهكذا الكثير من الكلمات.
ان الطفل يتعلم الكلمات كما يسمعها ويستطيع ان يلفظها كما يسمعها ولو بعد حين، فحتى يكون لسان الطفل صحيحا، علينا كأولياء امور ان نسمي الاشياء بأسمائها الصحيحة، ليتعلم الطفل الكلام الصحيح منذ نعومة اظفاره، ولينشأ مُجيدا لغة الام وبالتالي لبقا في كلامه، فاللباقة تكون في بعض الاحيان راس مال، وهي مطلوبة في الكثير من مرافق الحياة، ومنها السياسة.
 وفي الختام لا يسعنا الا ان نشكر امهاتنا ونعطيهم (باچي !)، اي قبلة من (چيچيهن !)، اي رؤسهن، لانهم كل الخير والبركة والمدرسة الاولى.
اوراها دنخا سياوش..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!