آراء متنوعة

“جمهوريةُ ترمب الأنيقة”

علي الجنابي

إن كان “دونالد جي ترمب” صادقاً في قوله: “إرثي الأهم أن أكون صانع السلام”، فإن قيلهِ هذا لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً، وهو إنه قد أعلنَ الحرب وفتحَ أبواب الجحيم على سادة (الدولة العميقة) المتحكمين بمقدارت بلده أميركا. ثم إنه لمن السذاجة أن يظن المرء بإعلان ترمب للحرب أنه إعلان مُتفلِّق من أصيل حسه الوطني، ومُتألِّقٌ من جميل خلقه، ومُتحلِّقٌ في نبيلِ غايةٍ بأن (أميركا عظيمة )، وإنما الأمرُ متعلِّقٌ بمبرراتٍ عديدة، قد يستبينُ بعضُها في هذي سطورٍ آتية:
* معلومٌ لكل ذي بصيرةٍ حتى ولو كانت قصيرة، أن خصيم “صانع السلام”هو “صانع الحرب”، ولا يمكن لصانع السلام أن تنجحَ صناعته مالم يقضِ أو على أقل تقدير يُحَجِّمْ جبروت وطغيان صانع الحرب . ولو أن كل ذي بصيرة ولو صغيرة سألَ نفسه: مَن هم صناع الحروب في ذا زمان؟ لأجابَ من فوره وببداهةٍ بأنهم سادة وكبراء (الدولة العميقة) الجاثمة في دهاليز الكونغرس والبيت الأبيض، والجاثية في أروقة البرلمان البريطاني و10 داونينغ ستريت، وما من صنَّاعٍ للحروب على كوكبنا الأزرق سواهم. وأظن أن السيد ترمب يعي تماماً هذه الإجابة.
* ثم معلوم لكل ذي بصيرةٍ قد ارتوى للتوِّ من لذيذ عصيره، أن رجالات الإقتصاد (من رجال أعمال ومن صناعيين وتجار) هم أشد الناس كرهاً وإحتقاراً لرجال السياسة، ذاك أن “رأس المال جبان”، وان العلاقة بين الإقتصادي والسياسي كالعلاقة بين الفأر وهر المطابخ، فترى رجل الإقتصاد يتحاشى الظهور في دروب رجل السياسة، ولا يتماشى مع مغامراته إلا إضطرارا ، لأنه إن تماشى تلاشى في خضم مهاتراته. وبناءً على ذلكَ…
فإنه مِن غير المفهوم البتة لكل ذي بصيرةٍ حتى ولو كانت لا تتعدى حدود حصيره، أن تكونَ ثلةُ الحضور في حفل تنصيب”دونالد ترمب” هم رجالات إقتصاد من مثل رئيس شركتي تسلا وسبيس إكس: ايلون ماسك، ورئيس شركة” ألفابيت”: سوندار بيتشاي، ورئيس شركة ” أمازون” : جيف بيزوس، ورئيس شركة “آبل”: تيم كوك، ورئيس شركة “أوبن ايه آي”: سام ألتمان، وكثير غيرهم من ذوي رؤوس الأموال الساندة لترمب إسناداً عجيباً لم يسبق له مثيل في تأريخ الانتخابات الأميركية. ولذلك..
ورُغم أن ترمب “بزنس مان” مثلهم، ومن دافعي الضرائب، وما هو برجلِ سياسة، فلا تأويلاً منطقياً لهكذا حضورٍ نجيب لحفل التنصيب، والتفافٍ حول ترمب غريب إلا لكي يساندوهُ ويعزروهُ، ويدعموه في كشف ماكان مخفياً في القاع من خنوعِ رجالات الإقتصاد الصامت على مدى قرن تام لسادة الدولة العميقة. ولذلك…
فقد يبدو لكل ذي بصيرةٍ يبتغي استقراءَ آفاق مصيره، أن الرافع الأنيس والدافع الرئيس للسيد ترمب لإقتحام بركان السياسة التعيس، وإستماتته لتسلم كرسي الرئاسة مرتين اثنتين هو القضاء على ذلك الخنوع الصامت بذلِّ بئيس تحدياً منه وعناداً وليس تهرباً من الضرائب أو تقتيرا .
ولقدِ استشعرَ كل ذي بصيرة ارهاصات العتيد العنيد ترمب الخفية خلال جلوسه الأول خلف المكتب البيضاوي، ومحاولاته الفردية الخجولة والهزيلة للقضاء على ذا خنوع صامت، لكنها محاولاتٍ فاشلة جرَّاء درايته القليلة بدهاليز الدولة العميقة.
ثمَّ إن كل ذي بصيرة قد أبصر كيف تحوَّلَ مسارُ الإنتخابات الأميركية لجولتين رئاسيتين سابقتين ، وكيف إنقلبَ من تنافسٍ (ديمقراطي متحضرٍ) بين حزبين تقليديين ابتغاء خدمة الأمة الأميركية الى صراع (لئيمٍ حقود) بين سادة الدولة العميقة وبين قادة دولة الإقتصاد الرقيقة ، وكذلك قد أبصر كيف بلغ ذلك الصراع بين الفريقين الذروة بمحاولة اغتيال زعيم “جمهورية ترمب الأنيقة”.
ولا ريبَ عند كل ذي بصيرة ولو كانت قصيرة أن الطرف المنتصر في ذا (صراعٍ وجودي) هي الدولة العميقة، وستبقى هي المنتصرةَ حتى تطلع الشمس من مغربها، مادام في الأرض كثيرٌ من أناسيِّ لِلحق كارهونَ، وبالدناءةِ مُتَشَيَّمون، وبالبذاءةِ مُتَيَّمونَ، و(..يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا..). ثم (إنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وتراهمُ (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، لكنِ اللهُ العليم الحكيم جل في علاه، وهو ربُّ السياسةِ وربُّ الإقتصاد يقول: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ)، و(..كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَاً).
وهذا مالديَّ عقيدٌ من نظراتٍ صببتُها على السليقة.
نظراتُ تَحسبُ نفسها أنها حكيمةٌ في علوم الاقتصاد ودقيقة. وأن بصيرتها شكيمةٌ في علوم السياسة وعميقة، وإني لأظنها نظرات كاذبة، فلا هيَ دقيقة ولاهي عميقة، وإن هي إلا خربشاتٌ بزَّتها تقلبات الأرقِ حين القيلولة على السليقة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!