جمعة الآلام والتأمل بمنظر المصلوب

جمعة الآلام والتأمل بمنظر المصلوب

بقلم / وردا إسحاق قلّو

 ( … لا صورة لهُ ولا بهاء فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه  . مزدرى ومتروك من الناس . رجل أوجاع وعارف بالألم . ومثل من يستر الوجه عنه . مزدرى فلم نعبأ بهِ ) ” أش 53 “

    علينا أن نفهم أولاً دور الصليب في الخلاص ، فكيف نفهم معنى الصليب . وما أهميته في حياتنا المسيحية . في أسفار العهد القديم نبؤات كثيرة تشير وترمز إلى صليب المسيح وقدرته المعجزية . نستطيع أن تشعر بوجوده في تلك الأسفار ، لأنه يتراءى لنا أحياناً بين الأسطر ، فبصيص نوره يشعرنا بثمار العّود الذي خدع الأبوين فسقطا .

   الشعب العبري سار مع موسى في طريق طويل ، وكانت تلك ترمز إلى مسيرة صليب الفصح في طريق الجلجلة . ففي برية شور عندما وصلوا إلى ( ماره ) تذمروا على نبيهم لأن الماء كان مراً ، فأمر الرب موسى أن يطرح عوداً في الماء ليصبح الماء عذباً . هنا نجد صورة مسبقة للصليب الذي سيجعل مرارة حياة البشر إلى عذوبة . كذلك رفع موسى عصاه فشق البحر الأحمر .  كانت تلك صورة مسبقة لرسم الصليب على المياه ، وكما يرسم الكاهن تلك الأشارة على مياه المعمودية ليعبر المعمد من الظلام إلى النور . وهكذا عبَرَ الشعب مياه البحر الأحمر من العبودية إلى الحرية . وكذلك الحية النحاسية التي كانت رمزاً للداء والدواء معاً والتي ترمز إلى صليب المسيح ، ومن يؤمن بالمصلوب وبعمل الصليب سيخلصه الرب من عبودية الخطيئة .

   الصليب إذاً هو أداة خلاصنا . لأن الرب أختاره لكي يكون له مذبحاً تتم عليه مصالحتنا مع الآب . كما هو ميزان العدل والقدرة . غرس في أرض الجلجلة ليرُفَع عليهِ الحمل . وكأنه كان صلة الوصل السرية بين الجحيم والملكوت ، بل بين الأرض والسماء ، كما كان السّلِم الذي رآه يعقوب .

   عندما ننظر بصمت وإيمان إلى أيقونة الصليب ، فالمصلوب لا يريد منا الدموع ، بل يقول لكل منا كما قال لبنات أورشليم ( لا تبكينَ عليّ ، بَل على أنفسكنَّ وعلى أولادكنَّ ) ” لو 28:23 ” . إذاً علينا أن نبكي على خطايانا التي كانت سبب صعود السيد على الصليب لأجلنا . فأمام هذا المشهد نرى إلهنا يموت ويصل على عود الصليب إلى أقصى حدود المآسي البشرية . فلا نستطيع إلا أن نسجد له ونمجده على محبته وصبره وتحملهِ لتلك الآلام .

   تواضعَ حتى الموت لينحدر إلى أعمق هوه يصل إليها أي مخلوق . مات على الصليب لكنه بقي سيد الحياة ، إنه لسر يفوق حدود إدراك العقل والعلم ، مات السيد ، لكن بموته أرتعدت الجحيم خوفاً ، لأن مشروع الثالوث الأقدس ( الحمل المذبوح من قَبل إنشاء العالم ) كما يصفه الرائي في سفر الرؤيا . قد تم بنجاح ، فعلى الصليب يُجابه الإله التجربة الرابعة للمجرب الذي ترك المسيح بعد أن فشل في تجاربه الثلاثة إلى حين ، وذلك عندما قال له السيد ( أذهب يا شيطان ! ) ” مت 10:4″ . اي إلى حين يأتي الوقت للتجربة الأخيرة ، أيضاً سيجربه الشيطان في الوقت الذي يكون فيه  المسيح ضعيفاً منهكاً وكما كان  فيه المسيح ضعيفاً  في أواخر أيام الصوم الأربعيني .

   الله الآب لم يبعد الكأس عن المسيح ، رغم طلبه في بستان الزيتون ، ولم يستجب لصرخته على الصليب . ( إلهي إلهي لماذا تركتني ! ؟ ) يتحدث المسيح كإنسان بعيد عن طبيعة لاهوته التي لم يشأ أن يستخدمها أبداً لكي يشعر بالآلام كإنسان كامل . تخلى الآب في تلك اللحظات عن ابنهِ ليشعر بأنه محروم من الآب ، ولكي يشعر بوحدة عميقة ورهيبة . وفي هذه اللحظة بالذات يتحول الروح القدس ، ليصبح نقطة إلتقاء الألم الثالوثي . وكأنه يأخذ الصليب على عاتقه ، فيعطيه تلك القوة التي لا تُقهر . هذه الفكرة أوجزها المطران ( نيلا ربت ) أسقف موسكو قائلاً : ( الآب هو المحبة الصالبة . الأبن هو المحبة المصلوبة . والروح القدس هو قوة الصليب غير المقهورة ) إذاً الآب لم يتركه ، بل يريد أن يتم به عدله الإلهي لخلاص البشر . كما علينا أن لا ننسى علاقة صرخة يسوع تلك بالمزمور 22 الآية الأولى . إذاً هل كان كلام المسيح عمودياً موجه نحو السماء ، أم أفقياً موجه إلينا نحن البشر ؟ كان على قادة اليهود أن يبحثوا ويتحققوا خاصة من آيات هذا المزمور والتي تحققت في يوم الصلب بكل حرفيتها . علماً بأنهم يعلمون من قال هذا النص أولاً قبل أن ينطق به يسوع .

كيف نفهم هذه الأسرار نحن المتأملين بالصليب والمصلوب  ؟

   التقليد يرجح أن جمجمة آدم رمز الإنسان الأول مدفونة في ذات المكان . فآدم الأول والثاني يلتقيان في  تلك البقعة ليؤلفان قطبين متمركزين موجودين في كل إنسان وعلى هذا الأخير أن يختار بملْ إرادته ، محور وجوده . ظّنَ قيافا ومن هتف معه لموت يسوع بأنهم قد انتصروا ، لكن الطبيعة أظهرت حزنها فلبست السواد بسبب موت خالقها لتخفي عريه عن النظرين . والأرض تموجت خوفاً وحزناً ، أما حجاب الهيكل فتمزق كمن ينتحر ليعلن لليهودية إنتهاء العهد القديم ، بل إنتهاء دور الهيكل إلى الأبد . وعلمَ قادة السنهدريم بهذه الأحداث . لكنهم لن يبحثوا عن الحقيقة ، ليبقوا في ظلام جريمتهم . وكذلك نبدي رأينا بما فعله رئيس الكهنة أثناء محاكمته ليسوع الذي قال له هل أنت المسيح أبن الله ؟ فأجاب يسوع ( أنت قلت ! … سوف ترون ابن الإنسان جالساً عن يمين الق … ) فشق رئيس الكهنة ثيابه وصرخ . وما فعله كان حقيقة لأن ثياب كهنوت العهد القديم قد إنتهى زمنها إلى الأبد ، ليأتي بعده عهد النعمة والمصالحة .  

    كان الصليب عند الهالكين جهالة ولليهود عثرة ، أما لنا نحن المخلصين ففيه نجد فلسفةً جديدة لأن به أفتدانا السيد من لعنة الناموس ، لأنه هو صار لعنة من أجلنا . ومكتوب ملعون كل من علق على خشبة ( غل 13:3) . لكن هذه الفلسفة لم تنتهي بموت الرب ، بل يجب أن يتجدد هذا العمل بنا نحن أيضاً وذلك عندما نتمم وصايا المصلوب ، وذلك عندما نحمل صليبنا ونتبع فادينا . لهذا يقول الرسول ( مع المسيح صلبت .. صلب العالم لي وأنا للعالم ) وهذا يعني بأن أدخل معركة تجارب هذا العالم واستمر كالمسيح في المعركة . فما نقص من آلام المسيح لكي نتممه في أجسادنا ( طالع 1 قور 24:6) وذلك لكي لا يتعطل صليب المسيح ، ولكي نسير على خطاه وهو سيجذب كل المؤمنين به ويخلصهم ، وبحسب قوله ( عندما أرتفع سأجتذب إليَّ العالم ) . فصليبنا هو السّلِم الذي يرفعنا إلى السماء وكما رفع المسيح قبلنا .

نشكرك يا رب ، لأن بصليبك المقدس خلصتَ العالم .

التوقع ( لأني لا أستحي بالبشارة . فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن ) ” رو 16:1 “

Exit mobile version