آراء متنوعة

تونس في ميزان واقع النقل العام

تونس في ميزان واقع النقل العام

على المسؤولين في تونس إجراء تغيير جذري للتقييم الاقتصادي لمشاريع النقل العام عبر تركيز تحليلات التكاليف والمنافع التقليدية لبلوغ نقطة الكفاءة والحفاظ عليها وكسب رضا المستخدمين.

خطط كثيرة للنهوض بالقطاع.. لكن بلا جدوى
لازالت تونس متوقفة في نقطة الصيانة. لم تصل بعد إلى محطة الجودة. هكذا يمكن اختزال السياسات العامة في تونس لقطاع النقل العام، نتيجة مخلفات سنوات الاضطراب بعدما ظلت في السابق نموذجا يُحتذى به في التخطيط والتنفيذ والتشاركية خدمة لاقتصادها.

حديث وزير النقل رشيد عامري عن إعادة تشغيل عدد من عربات المترو الخارجة عن الخدمة منذ سنوات، وتدشين خط جديد مع وضع خطة لإعادة تأهيل شركة سكك الحديد الوطنية، يعكس اهتماما حكوميا بالنهوض بالوضع الكارثي لقطاع النقل، لكنه يثير في الوقت نفسه مخاوف من تكرار تجارب سابقة ركزت على حلول ترقيعية مع تقديم وعود بالإصلاح لم يتحقق منها شيء.

الخطاب الرسمي للمسؤولين لطالما دأب على ربط تطوير شبكة النقل بكل أشكاله بالتمويل، رغم أنه بند ثابت في ميزانية الدولة لقناعة السلطة بأنه من الأساسيات في أركان الاقتصاد كالتعليم والصحة. يكفي التعريج على حجم الزيادات السنوية في المخصصات الموجهة له، على قلّتها. فمثلا، ارتفعت في ميزانية 2025 بواقع 2.4 في المئة مقارنة بعام 2024 لتناهز 1.076 مليار دينار (336.8 مليون دولار). يستأثر النقل البري، بما في ذلك سكك الحديد، بالنصيب الأكبر بحوالي 310.7 مليون دولار.

◄ هناك نقص في التنسيق بين الحكومة وشركات النقل والمجتمع المدني لتحديد أولويات الإصلاح وتوحيد الجهود نحو تنفيذ خطة متكاملة

هل هذا كافٍ حتى نرى نقلا حضريا يستجيب لتطلعات التونسيين؟ ماذا عن الخطط الكثيرة للنهوض بالقطاع، والتي تتلمّس طريقها بلا جدوى في الواقع؟ أين التنافسية والمنافسة؟

الشيء المؤكد أنه مع تتالي الحكومات، وفي ظل كثرة البرامج المتعلقة بالنقل، لم يفكّر أحد من مجتمع الساسة أو من يديرون دواليب الدولة، في كيفية اللحاق بركب دول كانت لا تملك أيّ خطط لجعل النقل العام جزءا من عملية التنمية. الإمارات والمغرب والسعودية أحد هذه النماذج. إن التحديات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية تبدو واضحة أمام السلطة، غير أن الفراغ في قيادة القطاع مازال قائما لأسباب كثيرة.

الوزير عامري طل علينا مؤخرا في محاولة لإحداث اختراق في قطاع عجز من سبقه في إصلاحه بالحد الأدنى، مؤكدا أنه تمت صيانة 8 عربات مترو ودخلت الخدمة مجددا، على أن تتم إعادة 12 أخرى إلى العمل قبل نهاية يناير الجاري مع العمل على تسريع وضع 20 عربة مترو إضافية إلى السكة. كل تلك الجهود، وسنصل فقط إلى نصف الأسطول، الذي يضم 189 عربة مترو. فهل هذا معقول؟

من المهم أن نتذكر العراقيل التي رافقت التنمية بكل أشكالها منذ العام 2011 بعدما تميزت تونس بين الدول العربية والأفريقية بنهجها الاستباقي لضمان تمتع سكان المدن بالتنقل الفعال وسهولة الوصول على المدى الطويل. ومن اللافت أن خط سكة الحديد الخفيف، الذي يمتد لمسافة 45 كيلومترا وتم تشغيله بين عامي 1985 و1992 في العاصمة التونسية، كان يمثل استثمارا مهمّا قبل عصره وعكس أهمية الجدوى الاقتصادية منه.

ركزت الدولة في ذلك الوقت عبر نظام التنقل الحضري على مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق مع القليل من التنسيق بين النمو الحضري وتطوير شبكة الطرق والنقل العام وغير الآلي، لينتهي الأمر بنا إلى تهالك الأسطول وتعطل مصالح الناس. لقد ثبت أن هذا النهج لم يُبنَ على أسس إستراتيجية بعيدة المدى بالنظر إلى تغير المشهد الاجتماعي والاقتصادي والنمو الديموغرافي.

إدراكا للحاجة إلى تحول نموذجي عرضت الحكومة في عام 2020 إستراتيجية للتنقل الحضري تركّز على اللامركزية في المسؤوليات وإصلاحات التمويل والنهج المتعددة الوسائط للتنقل الحضري، وتعطي الأولوية للنقل العام وغير الآلي. والأمر الحاسم هو أن تحديث مهارات الموظفين ونشر المعرفة حول الممارسات الجيدة وتجارب البلدان الأخرى أصبح أمرا ضروريا لتنفيذ هذه السياسة الجديدة.

◄ مع تتالي الحكومات، وفي ظل كثرة البرامج المتعلقة بالنقل، لم يفكّر أحد من مجتمع الساسة أو من يديرون دواليب الدولة، في كيفية اللحاق بركب دول كانت لا تملك أيّ خطط لجعل النقل العام جزءا من عملية التنمية

كان هذا الهدف المرحلي الأول، ولم يُفعّل على النحو المطلوب، ولمعالجة هذه الاحتياجات طلبت وزارة النقل دعم برنامج سياسة النقل في أفريقيا وفريق قادة تخطيط النقل الحضري التابع للبنك الدولي لتنظيم ورشة عمل رفيعة المستوى لبناء القدرات في أواخر أكتوبر 2024. كانت محاولة من محاولات كثيرة لاستكشاف سبل هيكلة القطاع. علينا الانتظار لسنوات لتحقيق الهدف المنشود.

نظرا إلى أن الأمور تسير ببطء شديد جدا، وبدلا من وضع خطة شاملة طويلة الأمد، غالبا ما يتم التركيز على حلول جزئية أو ترقيعية تهدف إلى حل المشكلات المؤقتة دون معالجة الأسباب الجذرية. ولم يعد بإمكان القطاع العمل بشكل مجزأ وغير متكامل. حان الوقت أن يحقق مزيدا من التماسك والتحدث بصوت واحد للتأثير على البرامج الوطنية.

أيّ قرارات تتطلب إرادة سياسية قوية، وأيضا تنسيقا بين كافة الأطراف المعنية وتخصيص ميزانيات مناسبة. هناك نقص في التنسيق بين الحكومة وشركات النقل والمجتمع المدني لتحديد أولويات الإصلاح وتوحيد الجهود نحو تنفيذ خطة متكاملة.

يجب أن يشمل ذلك معالجة جذرية للتحديات الهيكلية من خلال تحسين الإدارة والابتعاد عن الحلول المؤقتة والتركيز على إستراتيجية طويلة الأمد تأخذ في اعتبارها الاحتياجات المتزايدة للمواطنين والبيئة.

على المسؤولين إجراء تغيير جذري للتقييم الاقتصادي لمشاريع النقل عبر تركيز تحليلات التكاليف والمنافع التقليدية لبلوغ نقطة الكفاءة والحفاظ عليها وكسب رضا المستخدمين، لأنه ليس من المنطقي أن تظل وضعية النقل ضمن دائرة التذمر الشعبي، إلى ما لا نهاية.
رياض بوعزة
كاتب وصحافي تونسي

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!