ترامب وسياسة حافة الهاوية
ترامب وسياسة حافة الهاوية
الصراع في غ*ز*ة ليس مجرد نزاع جيوسياسي يمكن حله عبر الضغط الاقتصادي بل هو نزاع متشابك وأي تصعيد في الضغط قد يؤدي إلى انفجار أمني بدلاً من الوصول إلى حل سياسي.
لم يبق في غ*ز*ة ما تطبق عليه سياسة حافة الهاوية
سياسة حافة الهاوية تُعرف بأنها إستراتيجية سياسية ودبلوماسية تتبناها الدول للاقتراب من حافة النزاع أو الأزمة بهدف تحقيق مكاسب معينة دون الانزلاق فعليًا إلى مواجهة كارثية، ونشأت هذه السياسة خلال الحرب الباردة، حيث استخدمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في سباق التسلح النووي والتهديدات المتبادلة، بهدف إجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات دون الدخول في مواجهة فعلية.
الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور ومستشاره جون فوستر دالاس كانا من أوائل القادة الذين طوروا هذه الإستراتيجية في التعامل مع الاتحاد السوفييتي، حيث كانا يهددان باستخدام القوة القصوى لإجبار الخصوم على التراجع. ومنذ ذلك الحين، استخدمت هذه السياسة في العديد من الأزمات الدولية، بدءًا من أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 وحتى الصراعات الحديثة بين الولايات المتحدة وخصومها الدوليين.
تبنّى دونالد ترامب هذه السياسة بشكل مكثف خلال فترته الرئاسية السابقة، معتبرًا أن نهج التصعيد والضغط الأقصى يمكن أن يدفع الدول الأخرى إلى تقديم تنازلات دون الحاجة إلى خوض حروب فعلية. من أبرز الأمثلة على استخدامه لهذه الإستراتيجية إلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات اقتصادية قاسية، وتصعيد الحرب التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية عقابية، وتهديد كوريا الشمالية بالحرب، قبل أن ينخرط في محادثات مباشرة مع زعيمها كيم جونغ أون، وفرض عقوبات اقتصادية وضغوط سياسية على فنزويلا لإسقاط نظام نيكولاس مادورو، ونجحت هذه السياسة في بعض الملفات مثل إجبار الصين على إعادة التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة، لكنها فشلت في تحقيق تغيير جوهري في دول مثل إيران وكوريا الشمالية، حيث لم تتراجع هذه الدول بل صعّدت من مواقفها.
◄ الحل الأمثل لقضية غ*ز*ة لا يكمن في سياسة التهديد، بل في الدبلوماسية الذكية والشراكة الإقليمية والدولية التي تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الصراع وتأثيراته الإنسانية، فالولايات المتحدة تمتلك نفوذاً كبيرًا لكنها لا تستطيع فرض حلول مستدامة بالقوة وحدها
والآن يعلن ترامب في ولايته الثانية عن التزام الولايات المتحدة بـ”شراء وامتلاك” قطاع غ*ز*ة بعد انتهاء الصراع بين إس*رائي*ل وح*ما*س، مقترحًا أن تتولى دول أخرى في الشرق الأوسط إعادة إعمار المنطقة تحت إشراف أميركي، هذه التصريحات تعكس محاولة أخرى لاستخدام سياسة حافة الهاوية، ولكن في ملف شديد الحساسية، فهناك عدة أسباب تجعل سياسة حافة الهاوية غير قابلة للتطبيق في غ*ز*ة. الصراع في غ*ز*ة ليس مجرد نزاع جيوسياسي يمكن حله عبر التهديد أو الضغط الاقتصادي، بل هو نزاع ديني، قومي، وإنساني متشابك وأي تصعيد في الضغط الأميركي قد يؤدي إلى انفجار أمني بدلاً من الوصول إلى حل سياسي، في حالات مثل الصين أو إيران، هناك أنظمة حكم مركزية يمكن التفاوض معها، أما في غ*ز*ة، فالسلطة السياسية موزعة بين ح*ما*س والسلطة ا*لفلس*طينية، مع وجود تأثيرات إقليمية لإيران وتركيا، هذا التعقيد يجعل من الصعب استخدام سياسة الضغط القصوى لتحقيق أهداف محددة.
أي محاولة أميركية لفرض واقع جديد في غ*ز*ة ستواجه برفض عربي وإسلامي واسع، فضلًا عن الاعتراض الأوروبي والدولي، فالمجتمع الدولي يعتبر غ*ز*ة أرضًا محتلة، مما يجعل أيّ محاولات لفرض سياسات أحادية الجانب أمرًا محفوفًا بالمخاطر، قطاع غ*ز*ة يعاني من كارثة إنسانية بسبب الحصار الإ*سر*ائي*لي، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وأيّ محاولة للضغط أو فرض حلول دون معالجة هذه الأوضاع الإنسانية ستؤدي إلى نتائج عكسية وزيادة التطرف بدلاً من الاستقرار.
في بنما، انسحبت حكومة بنما من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية بعد ضغوط أميركية، لكن ذلك أدى إلى توتر العلاقات بين بنما وبكين، مما قد ينعكس سلبيًا على اقتصاد بنما مستقبلاً، وفي كولومبيا فرض ترامب عقوبات على كولومبيا بعد رفضها استقبال المرحّلين الأميركيين، مما أدى إلى تصعيد دبلوماسي ورد فعل قوي من الحكومة الكولومبية، وفي المكسيك فرض رسوما جمركية لإجبار الحكومة المكسيكية على تشديد الرقابة على المهاجرين، ونجحت هذه الخطوة جزئيًا، لكنها أدت إلى تدهور العلاقات التجارية بين البلدين، وفي أوروبا فرض رسوما جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا، مما أدى إلى تهديدات بردود فعل أوروبية سريعة، مما يجعل مستقبل العلاقات الأميركية – الأوروبية أكثر توترًا.
سياسة ترامب القائمة على حافة الهاوية قد نجحت في بعض الحالات عندما كان هناك توازن قوى واضح وطرف تفاوضي قادر على تقديم تنازلات، لكن في ملف حساس مثل غ*ز*ة فإن أيّ تصعيد أو محاولة فرض حلول خارجية دون توافق إقليمي قد تؤدي إلى نتائج كارثية بدلًا من حل النزاع، وفي نهاية المطاف الحل الأمثل لقضية غ*ز*ة لا يكمن في سياسة التهديد، بل في الدبلوماسية الذكية والشراكة الإقليمية والدولية التي تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الصراع وتأثيراته الإنسانية، فالولايات المتحدة تمتلك نفوذاً كبيرًا لكنها لا تستطيع فرض حلول مستدامة بالقوة وحدها، مما يجعل من الضروري العمل على إستراتيجيات أكثر شمولية واستدامة تأخذ في الاعتبار مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة كحل الدولتين مثلا، وبذلك يمكن تحقيق حلول أكثر استقرارًا تلبي تطلعات جميع الأطراف بدلاً من تعميق حالة عدم الاستقرار القائمة.
علي أسمر
صحفي ومحلل سياسي مختص بالشؤون التركية
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.