الحوار الهاديء

أوربا في خطر

لويس إقليمس       

  

أوربا في خطر

بغداد، في 18 كانون ثاني 2019

تداعيات خطيرة في انتظار أوربا بعد الشرخ الكبير الذي سيحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي سواء حصل ذلك بصورة منظمة أم بغيرها. ومن شأن هذا الشقّ أن يُضاف إلى سلسلة أزمات قائمة، سواءً تلك التي تعود لموضوعة تنامي أنشطة الار*ها*ب وعدم وجود سلطة فاعلة أو إرادة قوية لاستئصال أدواته وشخوصه أو تلك المتمثلة بالاحتجاجات الأخيرة التي قد تؤطّر الخارطة المستقبلية للقارة بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية لفئات عديدة، ناهيك عن الامتعاض الشعبي من تزايد قوانين فرض الضرائب وتحميل المواطن أوزار القادمين الجدد من خلف الأسوار.

إنّ ما حصل منذ سنوات فيما يتعلق بتزايد الأنشطة الار*ها*بية التي أخذت أشكالاً متنوعة بحسب تورط الجهات التي تخطط لها أو تدعمها أو تقف على الحياد منها ومن نتائجها، قد يسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بقصم ظهر هذه القارة التي ما يزال السياسيون فيها وبعض زعمائها لا يقتنعون أو لا يريدون تصديق أنَّ ما يحصل يقع فعلاً ضمن مخططات استراتيجية تتولاها جهات مسلحة بأيديولوجية لا يخشى أصحابُها ومؤيدوها الإفصاح عنها وعن أهدافها بمناسبة ومن دون مناسبة. فالهدف واضح بجلاء ماء الخلجان، وهو غزو هذه القارة “العجوز” بجماعات تحمل أفكارًا متطرفة أو تتعاطف مع مروجيها بهدف اختراق المجتمع الأوربي المحسوب على المسيحية ظلمًا. ولعلّ هذا السبب إلى جانب تصدير الديمقراطية والحرية التي يُتهم بها الغرب بنقلها إلى مجتمعات وأمم لا تتقبل تقاليدها وموروثاتُها هذه الأفكار المتقدمة وأيّ اختلاف أو تعددية مهما كان نوعها، تشكل في حدّ ذاتها تبريرات وافية للتغلغلَ في أروقة السلطة ليس في أوربا وحدها بل في دول الغرب عامة وبأي ثمن سعيًا وراء تغيير الأنظمة السياسية فيها شيئًا فشيئًا.

في حقيقة الأمر، تشكل الهجرة المنظمة وحالات اللجوء المتزايدة مؤخرًا والتي يُرتجى منها السعي لتشكيل الأغلبية في دول الاتحاد في قادم السنوات عبر تكثير النسل والتزاوج من نسائها الشقراوات سعيًا وراء غزوها بشريًا في مرحلة لاحقة، تشكل هذه الحقيقة واحدة من أهمّ التحديات التي ستقلب الموازين البشرية فيها. فقد تمّ تأشير مثل هذه المخاوف الخطيرة من قبل منظمات وأحزاب شعبوية ويمينية ومن السكان الأصليين أيضًا الذين تزداد مخاوفُهم من احتمال تناقصهم على حساب الإقرار بمشروعية الهجرة إلى بلدانهم. كما كان لتساهل زعامات بعض دول الاتحاد الأوربي في السنوات الأخيرة وانصياعها لدعوات فتح الحدود على مصاريعها للاجئين والهاربين من بلدان لا تحترم مواطنيها ولا تعترف بالديمقراطية والحرية، كان لها آثارُها الأولية على مسار الشعوب الأصيلة فيها من حيث امتعاض الكثيرين ممّا يحصل من تغيير ديمغرافي قاتل، ليس لشيء بل بسبب عدم جهوزية القادمين الجدد لتقبل فكرة الاندماج وترك أدران ماضي الدول التي لفظتهم ولم تقدم لهم حاجتهم الآدمية ولا ما يستحقونه من احترام وكرامة في بلدانهم الأصلية. فقد رأى البعض من الساسة المتحفظين في أوربا، أنّ طلبات اللجوء الحاصلة باتجاه بلدانهم قد أخذت مسارات أخرى من أجل تحقيق غايات الغزو القادم إليها بسبب تقادم أصحاب القارة في العمر وعجزهم عن تلبية حاجات بلدانهم بأجيالٍ متجددة من البشر لتحقيق التوازن في المجتمع بسبب أنانيتهم المبالغ فيها. وفي ذات السياق، جاء تصريح المستشارة الألمانية الخارجة عن السلطة قريبًا، ضمن هذا المبرّر لتعويض بلدها بطاقات بشرية جديدة وإضافية من أجل تشغيل الماكنة الصناعية وتعويض النقص الحاصل في اليد العاملة. فقد رأت في القادمين الجدد أيادٍ بشرية متجددة من شأنها أن تضيف زخمًا صناعيًا وعلميًا واقتصاديًا لبلادها عبر اندماج القادمين الجدد. لن ندخل في مدى مطابقة مثل هذه الرؤى مع الأهداف المكشوفة أو المخفية، لأنّ صحة شعوب هذه البلدان تبقى أمانة في أعناق زعمائها من حكام

وساسة وأحزاب عاملة على الساحة. والمستقبل هو الحاكم في تقرير الإيجابيات والسلبيات. لكن التحذير يبقى من الموجبات!

في شأن آخر، هناك مَن يرى أن الإصلاحات الترقيعية ولاسيّما الاقتصادية منها لبعض بلدان الاتحاد الأوربي لن تجدي نفعًا، سيّما وأنّ المنافسة التجارية قد زادت حدتُها ليس بين بلدان القارة فحسب، بل مقارنة مع دول العالم مجتمعة ولا سيّما الدب الروسي والغول الأمريكي والثور الصيني، مع عدم نسياننا تنامي صناعات دول أخرى وتعافي اقتصاداتها لحدّ التخمة كتركيا واليابان والهند وتأثير دول شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط مثل السعودية ومصر. لذا من الممكن جدًا أن تساهم التغييرات الحالية والعتيدة ضمن الطواقم الحاكمة في بعض بلدان أوربا في زيادة المخاوف والقلق داخل العائلة الأوربية. فما شهدته إيطاليا مثلاً في منتصف العام المنصرم 2018 من توافق تحالفي لأصحاب مشروع الإصلاح الحكومي المناهض للنظام الذي رًصد له مبلغ 100 مليار يورو، قد زاد في وقتها من القلق حيال مستقبل السياسة العامة للقارة بسبب ما قد يشكله مثل هذا الإصلاح المخالف للاتفاق ضمن دول الاتحاد من تحدّ لاقتصادات باقي دول القارة في مجال تخفيض الضرائب وتقليل سنّ التقاعد والضمان الصحي والتربية وأصحاب الإعاقات البشرية وتحديد المدخولات الدنيا للمواطن الإيطالي بمقدار 780 يورو شهريًا. وهذا المشروع في حالة تطبيقه يُعدّ مخالفة لتوجهات باقي دول الاتحاد الأوربي مجتمعةً نتيجة لغياب التمويل فيه وانتهاكه لقواعد ميزانية الاتحاد. هذا إضافة إلى ملاحظات هامة تجاه الجيل الجديد من الساسة الأوربيين ممّن يسعون لاستعادة زمن الفاشية بالاستشهاد بأفعال قادتها السابقين الذين أستنكرهم التاريخ والإنسانية سواءً بسواء. وقس عليه ما طالَ دولاً غيرها مثل اليونان والمجر والنمسا وبولندا في السنة ذاتها. وكلّها تشهد للخلاف القائم بين دول القارة المتهالكة حيال نظام الاتحاد والقواعد المتفق عليها، ما ينذر باعتراضات لاحقة قادمة أخرى في دول غيرها بخصوص المعايير المتفق عليها في مجال الخلاف حول مواضع مثل الهوية الأوربية ومسارات الهجرة الشرعية وغير الشرعية ومشاكل الاندماج وما سواها ممّا خفي. وليس من شك في أنّ مثل هذه المشاكسات والمنغصات ستخلق صداعًا لبعض دول أوربا الرئيسية وبالذات لزعامات الدول الكبيرة ممّن يعلّقون آمالاً على بقاء قوّة الاتحاد وثبات قدرة عملتها الموحدة وصيانة أهدافها الضامنة للحريات العامة والخاصة وتعزيز الديمقراطية المعهودة لديها.

إنّ تنامي الفكر اليمينيّ الشعوبيّ المتطرّف بسرعة في صفوف بلدان الاتحاد الأوربي وصعود سياسيين من أصحاب الدعوات القومية المعادية للأجانب إلى السلطة أو من مؤيديها، له بطبيعة الحال أسبابُه وحيثياتُه، كما سيكون له تأثيره على تسيير وتطبيق سياسة دول الاتحاد وما قد يصحب ذلك من قلق مشروع حيالَ مستقبلها السياسي والمالي والأمني والاقتصادي معًا. وقد يساهم هذا الفكر جزئيًا في تدمير مشروع الاتحاد الذي ظلّ منذ إنشائه بعد أهوال الحرب العالمية الثانية، عاملاً أساسيًا لحفظ الأمن والسلام ووحدة الصف، بل والملاذ الآمن لسيادة القانون وحفظ النظام والازدهار المجتمعي وكرامة الإنسان في ممارسة الديمقراطية والحرية بأقصى تجلياتها. في حين أنّ أي انزلاق بالخروج عن الاجماع العام سوف تكون له آثارُه التدميرية على مستقبل شعوب القارة وأراضيها فيما لو فقدت تماسكَها المهدَّد بسبب الاختلاف في وجهات النظر السياسية والحياتية والأمنية والدفاعية والاقتصادية معًا.

ما يمكن قوله اليوم، إنه في ظل الظروف الدولية الراهنة ونتيجة لتصاعد أوجه الاختلاف في طريقة معالجة مشاكل القارّة عبر التفاهم والحوار والركون للاتزان كما كانت اعتادت، يسود اعتقاد مصحوب بشكوك مقبولة بذهاب بعض دول المجموعة الأوربية باتجاه الانعزالية والانفرادية في اتخاذ قرارات خاصة بكلّ بلد بحجة الحفاظ على خصوصيات كلّ دولة وضمان حقوق مواطنيها. وستكون الانتخابات القادمة المقررة للبرلمان الأوربي في أيار القادم من هذا العام هي المحك لإيجاد حلول لجميع هذه الإرهاصات والتجاذبات، أو ببساطة قد تكون مناسبة لوضع خارطة طريق جديدة متفق عليها إجماعًا. وفي كلّ الأحوال وكما يبدو من المشهد القائم، سيحصل كلّ هذا وسط الكثير من التخوفات والتحذيرات إزاء محاولة البعض خلق مناخ من الخوف والفوبيا ليس تجاه الأجانب القادمين من خلف الحدود فحسب،

بل أيضًا ما بين دول الاتحاد ذاتها وبين شعوبها المختلفة في الرأي والرؤية حول صيانة وجه أوربا وتاريخها وحضارتها. فهل ستنغلق دول أوربا على ذاتها ثانية ويتفتّت اتحادها بعد أن شهدت دولُه أروع انفتاح في الأرض والعقل والرسالة الإنسانية؟ أم ستخرج متعافية وتعيد حساباتها وتراجع مسيرتها في كافة شؤون الحياة، ومنها مصالح دول منطقتها المهددة بالانسلاخ والتشرذم؟

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!