بغداد والمدينة التاريخية : قرارات متسرعة ينبغي
تغلب عيد الهادي الوائلي
*مقدمة:*
تسعى المدن التاريخية في عصرنا الراهن إلى تطوير مشاريع إحياء حضري رائدة لإحياء هذه المناطق، لا لكونها مجرد مبادرات عمرانية للحفاظ على تراثها فحسب، بل كمشاريع استراتيجية ذات ابعاد حضارية تهدف إلى تنمية النشاطات السياحية والاجتماعية والاقتصادية ولما لها من دور في تعزز الوحدة الوطنية والشعور بالانتماء. فمن خلال هذه المبادرات التي تنبع عادة من خطط شاملة واستراتيجيات طويلة المدى لإحياء المنطقة التاريخية برمتها، تعمل إدارات هذه المدن على تعزيز مكانتها العالمية اعتمادا على قدرة هذه المشاريع في جذب الاهتمام الإعلامي والاستثمارات المحلية والعالمية، فضلاً عن تأمين الدعم الفني والمادي والمعنوي المطلوب من المنظمات الدولية والمؤسسات المعنية لتحقيق اهداف المشروع والحفاظ على الموروث الحضري للمدينة.
*بغداد ومشروعها العالمي:*
وفي الوقت الذي كانت فيه المدينة التاريخية في أمس الحاجة إلى مشروع استراتيجي ينقذها من الطريق الذي تسير فيه والذي يهدد وجودها وهويتها التاريخية بالاندثار، كان مشروع “إحياء مدينة بغداد التاريخية”، وهو المشروع الذي كان نتاجا مهنيا لدراسات وجهود استمرّت لسنوات، قد نضج واجتاز العديد من المراحل وحظى بتأييد العديد من الجهات المحلية الاكاديمية والمهنية وحتى الرسمية منها، علاوة على إثارته لاهتمام عدد من المنظمات العالمية ذات الشأن والاختصاص.
هذا المشروع الذي سبق وقدم الى الجهات التنفيذية العليا على شكل أوراق عمل ومقترحات منذ عام ٢٠١٩، كما ونوقش في ندوات وورش عمل كان احدها ندوة وزارة التخطيط والتي اشير اليها في نهاية المقال. وقد كانت توقعاتنا بان الحكومة الجديدة التي استلمت مهام عملها في عام ٢٠٢٢ ستقوم باغتنام هذه الفرصة التاريخية التي تنتظرها المدينة بفارغ الصبر وانها ستعمد الى استغلال هذه الجهود وان تستمر في تعزيزها من اجل ان تحوز بغداد على مكانتها بين مدن العالم التاريخية.
*قرارات متسرعة:*
الا انه وللأسف ولاسباب غير مفهومة او معروفة وبدلا من ان تغتنم هذه الحكومة الفرصة وتتبني مشروع الإحياء الذي كان جاهزا على طاولتها، فوجئنا بما لا يمكن توقعه اذ قامت هذه الجهات المتمثلة برئاسة الوزراء وامانة بغداد بإهمال كل ذلك وتهشيم الجهود التي بذلت من خلال الإعلان عن تكليف منظمة غير متخصصة بالمضي في عملية سميت “تأهيل المدينة القديمة” وهي عبارة عن مشاريع ترقيعية تنفذ بصورة مباشرة من دون وجود خطط شاملة او استراتيجيات حقيقية ولا اشراف مهني متخصص وبذلك وضعت المدينة تحت رحمة قرارات عشوائية مرتجلة قد تفقدها قيمتها التاريخية ولن تحقق إحياء المنطقة او حل مشاكلها المستعصية حيث وان افضل ما يمكن ان تقدمه -كما راينا- يتمثل في ترميم واجهات بعض المباني الواقعة على الشارع الرئيسي فيما تقبع باقي الأزقة المهملة والأحياء السكنية المهدمة في بيئة محطمة.
*خسارة كبرى:*
اما الخسارة الكبرى فهي تتمثل في خسارة المدينة لاحتلال موقعها ضمن مدن المنطقة والعالم كالقاهرة وجدة وبيروت وغيرها والتي شاركت فيها ومولتها واشرفت عليها مختلف المنظمات الدولية المتخصصة وساعد ذلك في تسليط الإعلام العالمي الضوء عليها وجذب الاستثمارات والتمويل المطلوب.
وبدلا من دفعها إلى العالمية أصبحت بغداد التاريخية كرة يتلقفها صغار اللاعبين المحليين لأغراض المنفعة الشخصية والمادية وسلب حق المدينة في الفخر والتباهي بمثل هذه المشاريع كمشاريع حفاظ وطنية بما يعزز مكانتها الحضارية والقومية ويسهم في تحقيق النمو المستدام وضمان نشاط هذه المناطق وحيويتها على المدى الطويل.
*أسئلة مشروعة:*
وهنا تتبادر الى الذهن اسئلة اطرحها لمتخذي القرارات واتمنى ان احصل فيها على اجابات واضحة:
لماذا لا يكون لبغداد مشروعها الذي يضعها على اعتاب العالمية ولماذا نتعامل معها بهذا الاستخفاف؟
• لماذا يتم العمل في مركز بغداد التاريخي من دون وجود مخطط شامل لإحياء المنطقة ولماذا لا يتم التخطيط لذلك والاشراف عليه من قبل مؤسسات عالمية؟
• ما هو السر في ترك الامور على غاربها في مركز بغداد التاريخي بيد جمعيات ليس لها الخبرة ولا التخصص لتكون هي الجهة الوحيدة التي تخطط وتصمم، وتنفذ، وتدير وتستلم؟
• هل يحق لاي رابطة او جماعة تمتلك بعض الاموال استباحة امور المدينة التاريخية وتنفيذ ما يحلو لها في المكان الذي ترغب به واستغلال امكانات المؤسسات الحكومية من دون تقييم مهني ولا منافسات ولا حتى رقابة مالية؟
*الخلاصة:*
الرابط ادناه يوضح بعضا من آخر الجهود التي بذلت لدعم المشروع في ندوة عقدت في ديوان وزارة التخطيط مستهل عام ٢٠٢٢ وصدرت عنها توصيات مهمة رفعت الى الامانة العامة لمجلس الوزراء الا ان قرارات الجهات التنفيذية وضعتها في سلة المهملات لصالح عمليات ترقيع محددة تنفذها جهات غير متخصصة ومن دون دراسات رصينة معتمدة ومخطط شامل كما ذكرنا، وبذلك فقدت بغداد ومدينتها التاريخية فرصتها نحو العالمية … الا ان الفرصة لا زالت سانحة لمتخذ القرار لإصلاح ما افسده الدهر …
فهل سيفعل ذلك ولماذا التمسك بالترقيع وترك توجه المدينة نحو العالمية واهمال الجهود التي بذلت في ذلك … ولمصلحة من ؟
تغلب عيد الهادي الوائلي
معمار/مخطط مدن
taghlib.com
—————————
رابط الندوة التي عقدت في وزارة التخطيط في ٢٠٢٢/١/١٩ لمناقشة المشروع:
https://www.facebook.com/share/14cRNXP2ZF/?mibextid=wwXIfr
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.