الوحدة الكنسية بين الواقع والدعوة ، وبين الحقيقة والخيال

الوحدة الكنسية بين الواقع والدعوة ، وبين الحقيقة والخيال

+ سعد سيروب
مقالي لهذا الأسبوع هو عن الوحدة الكنسية والوحدة المسيحية . ويأتي بمناسبة أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين للفترة من 18-25 كانون الثاني من كل عام.
مقدمة
أصعب ما في الحياة والكون هو الوحدة . كل شيء فينا وحوالينا يوحي بالكثرة، والتعددية ، والأشكال والألوان ، فكيف السبيل إلى الوحدة ؟ ومع هذا ، فإن الوحدة هي المنشودة، بل الحقيقة ، ولا قوام بدونها، وهنيئًا لمن يعرف أن يجمع ويوحد . ويجب أن أقول منذ البداية أني لست مع الوحدة كحلولية وانصهار ؛ ولست معها أيضاً كعنصرية وتعصب..
الوحدة أساس ثابت وقوي ، غاية وهدف. بكل بساطة : “أنا الكرمة وأنتم الاغصان ” (يوحنا 15: 5) . وكل غصن له شكله وطوله وعرضه، وورده وامتداده، وجهته ونموه وتطوره ، ولكنها جميعاً مرتبطة بجذع واحد ولهذا جذر واحد .
………………………………….
الوحدة في المسيح
المسيح هو “الحجر الحي” (1 بطرس 2: 4)، و “حجر الزاوية” (متى 21: 42)، و “به يحكم كل بناء ويرتفع ليكون هيكلاً مقدسًا في الرب” (أفسس 2: 21). والمسيحيون أيضًا “حجارة حية”، والبناء واحد، بناء روحاني ، كهنوت مقدس (1 بطرس 2: 5) . المسيح صخرة الايمان ؛ والإيمان وعي، وثقة ، وحب ؛ هبة ونعمة .
ماذا يعني أننا واحد في المسيح ؟ يعني أنه ملهمنا وفادينا ومخلصنا .. يعني أنه معطي الحياة وخالقنا .. يعني أنه هو أساس الحب الذي اليه ومنه وبه نحيا ونتحرك ونوجد .. يعني اننا مهما اختلفنا أو تنوعنا أو تفرعنا أو علونا أو دنونا فهو الذي يمسكنا وبه يتماس كل البناء .
المسيح هو كلمة الله ، به يكلمنا وكلمته حياة ، به وفيه حياتنا ، وحياته حب . لذا فإننا لابدّ أن نصبح لهبة نور ونار ، إن كنا فيه وسكن فينا . نحن الذين قد اعتمدنا بالمسيح، لبسنا المسيح، ولم يعد بيننا بعد يهودي أو يوناني، عبد أو حر ، ذكر أو أنثى ، لأننا أصبحنا جميعًا واحدًا في المسيح ، نسل ابراهيم ، وورثة الوعد (غلا 3: 27-29) . وسواء عشت أو مت ، فالحياة عندي هي المسيح (فيلبي1: 2-12) . الوحدة بين الأطراف تفترض الشبه والتناظر والتكافؤ ، وتقتضي مساواة لا تقبل التضاد ولا التنافر ولا التفاوت.
كل ما فيه يسري في عروقنا أيضًا، فهو “الحياة لكل موجود” (يو 1: 4)، “ومن كان له الابن كانت له الحياة”، لأن “هذه الحياة (الأبدية) هي ابن الله”، “ومن لم يكن له ابن الله لم تكن له الحياة” (1 يو 5: 11-12) وهو مقيم فينا “بفضل الروح الذي وهبه لنا” (1 يو 2: 24). إنها الشركة أو المشاركة (شَوتافوثا دروحا دقوذشا) التي تكررها الطقوس علامة اتحادنا بالثالوث.
المحبة من الله، وكل محب مولود لله وعارف بالله، ومن لا يحب لم يعرف الله. وإن كان الله هو الذي أحبنا أولاً، مجانًا، وأحبنا كل هذا الحب، فعلينا أن نحب بعضنا بعضًا. وإن نحن أحببنا بعضنا، أقام الله فينا، وتمت محبته فينا. ولا خوف في المحبة، لأن المحبة الكاملة تنفي الخوف. وإن قال أحد إني أحب الله، وهو لا يحب أخاه، فهو كاذب، لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه، كيف يمكنه أن يحب الله وهو لا يراه؟ (1 يو 4). لذا قال المسيح: “وصيتي لكم هي أن يحب بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يو 15: 12).
صلاة المسيح وأمنيته العزيزة: “ليكونوا بأجمعهم واحدًا”، “كما أنت فيّ، أيها الاب، وأنا فيك، ليكونوا واحدًا فينا”، ولتكن وحدتهم كاملة، فيعرف العالم، ويؤمن . عندئذ يكونون حيث أكون أنا ، ويعاينون ما أوليتني من المجد، إذ تهبهم الحياة الأبدية، لأن ما هو لي هو لك، وما لك هو لي، وأنا أتمجد بهم (يو 17).
…………………………………….
الوحدة الكنسية
نعلم جميعًا أن هناك العديد من نماذج الوحدة: وحدة في الحقيقة، ووحدة في المحبة، ووحدة في الحياة، ووحدة في الثقافة.. ونعلم أيضًا أن الكنيسة الكاثوليكية تضع لنفسها هدفًا لتحقيق الوحدة المرئية الكاملة لتلاميذ يسوع المسيح وفقًا للتعريف الذي قدمه المجمع الفاتيكاني الثاني في العديد من وثائقه (نور الأمم، رقم 8 و13).
هذه الوحدة، موجودة، في كل الكنيسة الجامعة. وهي لا تعني مجرد عودة الى الوراء (الى مجمع كنسي مهما كانت قدسيته..)  وإنكار لتاريخ الإيمان وعمل الروح القدس وابداعه في الانسان. بالطبع لا! كما وأيضاً لا تعني الوحدة مجرد وحدة في التعابير اللاهوتية والروحانية، أو في الأشكال الليتورجيا والنظم الكنسية.. الوحدة في التعددية والتعددية في الوحدة: الوحدة الكاملة والمجمعية الحقيقية بالمعنى الأصلي للكلمة يسيران معًا. والشرط الضروري لهذا التعايش هو أن يتطهر الالتزام بالوحدة ويتجدد باستمرار وينمو وينضج.
يمكن للحوار أن يساهم في تحقيق هذه الغاية. إنه أكثر من مجرد تبادل للأفكار. ليس مشروعاً أكاديمياً : إنه تبادل عطايا وكنوز يمكن للكنائس والجماعات الكنسية أن تجعل كنوزها متاحة الواحدة للأخرى. وبفضل هذا الالتزام يمكن أن تستمر الرحلة خطوة بخطوة حتى نصل أخيرًا، كما تقول الرسالة إلى أهل أفسس، “، حتى نَصِلَ جميعاً إلى وحدة الإِيمان ووحدة المعرفة لابن الله، إِلى إنسان تام البلوغ، إِلى مقدار قامة ملء المسيح” (4: 13). مثل هذا الحوار لا يمكن أن يتطور إلا في سياق روحانية صادقة ومتماسكة. لا يمكننا أن “نصنع” الوحدة بقوتنا وحدها. يمكننا الحصول عليها فقط كعطيّة من الروح القدس. لذلك فإن الوحدة الكنسية هي روحية، ولن تتحقق إلا بروحانية الصلاة والقداسة. وأنا أعتقد أن أفضل شكل من أشكال الوحدة المسيحية هو العيش وفقًا للإنجيل.
………………………………………
كيف نبني الوحدة؟
1. إن المسيح الواحد الذي يجمعنا يعطينا الشجاعة التي تؤهلنا على مواجهة الحقيقة، غير مكتفين بالمجاملات وإعلان المبادئ النظرية، بل مميزين صريحًا بين المبادئ السامية التي نتفق عليها، وبين الممارسات العملية لدى الكنائس المختلفة والمتمايزة، على أن تتم المصارحة بنية حسنة وبالمحبة والصدق في سبيل الايمان، بعيدًا عن التجريح والجدل العقيم والتهجمات، كي نتقدم على أرض صلبة.
2. على الجميع التحرر من الجهل والأفكار المسبقة، ويتم هذا بالحوار والتلاقي الشخصي المباشر الذي يتيح لكل كنيسة أن تكتشف الواحدة الأخرى، وبدون نزعة طائفية متكبرة، ولا تعصب كنسي منهجي. ولابدّ لهذا كلّه من قبول التعددية والتنوع، واحترام الواحد الآخر. ولا تناقض في هذا مع مفهوم الوحدة، بل التنوع ثراء.
3. الابتداء بالقاعدة، شعب الله، لا من أعلى الهرم، أو السلطة الكنسية. أنا أسميه الانقلاب على مفهوم السلطة. وهذا ليس الأمر بجديد، بل هو عودة الى الأصول. التشديد على البعد الروحي في الكنيسة، وبدلاً من التركيز على الكنيسة المنظورة وبنيتها القانونية، أعادة الاتزان بين الشركة وسلطة في سرّ الكنيسة: التركيز على السلطة على أنها خدمة، وعلى الرئاسة الجماعية، والشركة أساسًا لالتحام الجسد وتنوع المواهب والخدم.
4. ليست الكنيسة مؤسسة ومنظمة، وقاعدة فرائض وأخلاق، بل أكثر من ذلك: انها جسد المسيح، هيكل الله والروح، الطريق السوي إلى الخلاص. ليست الكنيسة واقع ساكن وجامد، وبل واقع دينامي، وكائن حي، تولد بالعماد، وتتغذى بالقربان، وتنمو وتتوحد بالحب. إنها شعب رأسه المسيح، والمسيح قدوس، بينما في الكنيسة جماعة خطأة، وعليها أن تطهرهم بالدم الزكي، فتبعث النقاء في الأرض كلها، وتعمق الآخاء والتضامن، فهي رسالتها.
“ليكونوا واحداً”، ليس معطى، بل عطية ومسؤولية.. ليست وراءنا وفقدناها، أنا أمامنا وعلينا أن نبنيها.. ليست مجرد تحدي ومستحيل ان نحقق.. إنها دعوة وعليها أن نعيش بحسب متطلباتها..
Exit mobile version