مقالات

الأشخاص ذوي الهوية ثنائية الثقافة في فرنسا نعمة أم نغمة ؟ تحديات و إيجابيات.

عبير المجمر (سويكت)

الجمهورية الفرنسية يتم وصفها حسب المادة الاولى من الدستور الفرنسي على أن فرنسا جمهورية علمانية ديموقراطية إجتماعية غير قابلة للتجزئة، العلمانية في فرنسا تشير لفصل الدولة عن المنظمات الدينية، و لكنها فى ذات الوقت تضمن حرية ممارسة العبادة و حرية الدين.
تحرص فرنسا على أهمية أحترام رموز الجمهورية ، كما تعتز فرنسا بتاريخها العريق الراسخ و ثقافتها، فى ذات الوقت فرنسا اليوم ليست هى فرنسا الأمس فقد أصبحت أكبر حاضنة أوربية للتعدد الثقافي الذى يحتاج لإدارة بشكل حكيم بحيث يصبح هذا التعدد مصدر قوة لفرنسا و ليس مصدر خلاف و جدال، اذا نظرنا لهذا التعدد الثقافي بتقبل و أحترام.
المواطنون الفرنسيون من أصول مهاجرة هم جزء لا يتجزا من الكيان الفرنسي، في ذات السياق ان أحترام سيادة الدولة الفرنسية و تاريخها و تراثها و مورثها الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي و الثقافي أمر مهم، و في المقابل الاعتراف بالتعددية الثقافية والاجتماعية للتركيبة المجتمعية الفرنسية ايضا مهم احترامًا كذلك للخصوصية التعددية الثقافية و حقها فى ان تكون ما تريد ان تكون عليه مع الالتزام الكامل بمبادئ الجمهورية و ان لا يتنافى ذلك و أهمية عملية الاندماج.
من المعلوم ان الفرنسيين من أصول مهاجرة جلهم يمتازون بهوية مزدوجة الثقافة، و السؤال الذي يطرح نفسه إزدواجية الثقافة هذه هل هى نغمة ام نعمة ؟ و هل تتناقض الهوية مزدوجة الثقافة و مبادئ الجمهورية الفرنسية؟ هل هى عائق أمام الاندماج ام لا ؟.
اذا ركزنا في الشريحة المهاجرة على وجه الخصوص فهي تأتي لفرنسا و لديها ماضي و تاريخ و ثقافة و موروث تقليدي و فكري و إنساني، و أحيانا من ضمن التحديات التي تواجههم هي الاختيار بين الهويتين و الثقافتين ؟ و اغلبهم يريد الاندماج في الحاضنة الجديدة و في ذات الوقت نجد لديهم أرتباط و افتخار و اعتزاز بمورثهم الثقافي و الفكرى و الإنسانى ، من جانب يريدون الاندماج في الدولة المستقبلة و فى ذات الوقت يصعب عليهم محو ذاكرتهم و ماضيهم و هويتهم المزدوجة مورثهم التقليدي و الثقافي و ثوابتهم و ركائزهم.

و يحضرني في هذا الشأن الموقف الشهير لى الحاخام مردخاي إلياهو اليهودي، عندما تلقى دعوة من جاك شيراك لزيارة فرنسا، و فى ذلك دليل على اعتراف فرنسا برجال الدين فى لعب دور مجتمعى و سياسى فعال، فما كان من رجل الدين الحكيم هذا ، إلا ان قبل الدعوة، و سخرها لهدف شعبى قومى، كما يروى لنا، فقد تأثر هو وزوجته بشدة بهذه الدعوة التي قبلوها بكل سرور، و يُشار الى ان شيراك الرئيس الفرنسي، كان قد عرف بسياسته الخارجية الموالية لفلسطين على حد وصف البعض ، ودفع إس*رائي*ل باستمرار للتنازل عن الأراضي للفلسطينيين على حد تعبير البعض ، مما أدى إلى توتر العلاقات الفرنسية الإ*سر*ائي*لية.
من جانب آخر يوصف الحاخام مردخاي إلياهو اليهودي الراحل، انه عاش طوال حياته في إس*رائي*ل ، ولا يعرف الشكليات والبروتوكولات الخاصة بالدبلوماسية الخارجية، و بما فى ذلك الفرنسية، و لا التقاليد الفرنسية ، و لكن عزيز القارىء بالرغم من ذلك فالرجل يعتز بهويته و ثقافته و تقاليده البسيطة الحكيمة الغنية مضمونًا و محتوى.
و يحكى آنذاك ان أعضاء السفارة الإ*سر*ائي*لية في فرنسا ، كانوا متوترون للغاية بشأن هذه الدعوة ، لأنهم يدركون ان الحاخام مردخاي إلياهو ، قد يقول أو يفعل شيئًا يزيد من تفاقم توتر العلاقات الفرانكو إ*سرائ*يل*ية.
لكن قد زالت او قلت تلك المخاوف تدريجيًا لانهم كان موقنين بموقفه الودي ، وابتسامته التي خففت المخاوف من الجميع ، حتى بات موظفى السفارة مقتنعين ، أن هذا اللقاء سيحقق في النهاية نجاحًا كبيرًا من حيث وجهة نظرهم الدبلوماسية.
لكن سفير إس*رائي*ل فى فرنسا آنذاك يقال انه شعر بانه ربما يكون قد ابتهج ، بسرعة ، فسرعان ما تاكد ان مخاوفه فى محلها ، فخلال الزيارة الرسمية المحددة لالحاخام مردخاي إلياهو ،لمتحف اللوفر .
خلال هذه الزيارات الرسمية ، بما ذلك زيارة 
متحف اللوفر، قد أبدى الحاخام مردخاي إلياهو جهل صارخ بالتراث الفرنسي، فعندما عرض عليه كرسي نابليون ، قام هو بطرح أسئلة فاجأت المسؤولين الفرنسيين ، على هذا النحو الآتى:
هل هذا الكرسي هو كرسي للبيع؟ ما هو سعره؟ كم من الوقت عاش نابليون؟. 
فما كان من المرشد الفرنسي المرافق له إلا ان رد على الحاخام مردخاي إلياهو قائلًا: لا ، كرسي نابليون ليس للبيع ، بل له قيمة تاريخية كبيرة ، إنه جزء من التراث القومي الفرنسي .
لكن أسئلة الحاخام مردخاي إلياهو لم تتوقف عند ذلك، حتى أصبحت تحرج الموظفين الدبلوماسيين ، و عند عرض إحدى الغرف عليه ، الملك لويس 14 ، بدأ الحاخام مردخاي إلياهو فى سؤال المرشد ، عما إذا كان هذا الملك رجلاً أخلاقيًا . و من المعلوم لدى الجميع اهتمام ما يسمى بملوك الشمس الفرنسيين ، بما فى ذلك لويس 14 بالنساء المشهورات جدًا، فى الوقت الذى تسببت فيه تلك الأسئلة فى بعض الإحراج والضحك فى آن واحد ، بينما التزم المرشد الفرنسي بالأعراف المهنية و رد عليه بطريقة سلسة موضحًا : أن الملك لويس 14 لم يكن ما يميزه بشكل خاص كونه أخلاقيًا او لا ، لكن مع ذلك فان فرنسا فخورة به ، و بتراثه .
و بعد أنتهاء تلك الزيارة لمعالم فرنساو تاريخها الراسخ، تمت مرافقة الحاخام مردخاي إلياهو 
إلى قصر الإليزيه ، للقاء رئيس الدولة الفرنسية جاك شيراك ، و ذُهب به لحضور احتفال رسمي ، بعد إجراء الحفل .
و بعده، تمت دعوته الحاخام مردخاي إلياهو ،
لقول بضع كلمات ، والتي سيتم ترجمتها في نفس الوقت إلى الفرنسية. فقرر الحاخام مردخاي إلياهو ان يبدأ حديثه بوصف زيارته إلى متحف اللوفر بالتفصيل، متطرقا لأسئلته تلك التى كانت تارةً محرجة، و تارة اخرى مضحكة.
لكن فقد حدث و لاحظت زوجته ان المترجم لا يقوم بترجمة حديث زوجها الحاخام مردخاي إلياهو للفرنسيه بشكل صحيح، و أن المترجم لا يترجم بالضبط الكلمات التي يلفظ بها زوجها الحاخام مردخاي إلياهو ، الذى يحاول أن ينقل رسالة أعمق ، و أكثر من رسالة معتادة ، من مجرد عودة بسيطة في زياراته اليومية و شكر …الخ، وأن كل كلمة لها أهمية ، و عليه توجهت زوجته طالبةً من الحاخام الأكبر في فرنسا Joseph Haïm Sitruk الذى كان حضورًا و يتقن اللغتين الفرنسية و العبرية بان يقوم هو بالترجمة ، و بالفعل كان ذلك و بدا بالترجمة لالحاخام مردخاي إلياهو الذى قال عندها : 
أثناء زيارتي للمتحف ، لقد علمت أن كرسي نابليون لم يكن معروضًا للبيع ، نظرًا لأهميته التاريخية ، فقد علمت أن الملك لويس 14 على الرغم من عدم كونه رجلاً مثاليًا ، إلا أنه يتم تكريمه كبطل ، ذو شخصية مثالية ، ومع انه لم يكن رجلًا مثاليًا أو أخلاقيا إلا إنه كان يتم تكريمه كبطل قومي، لقد لاحظت أنكم تتوقعون مني تكريم هؤلاء الرجال ، هؤلاء الأشخاص ، على الرغم من أنني لست فرنسيًا ، وأنا لا أعيش في فرنسا ، فاذا كان الأمر كذلك ، أيها الأصدقاء الأعزاء ، فانا أطلب نفس الشيء منكم ، نحن الشعب اليهودي ، ولدينا أيضًا الأولياء العظماء ، كإبراهيم ، إسحاق ، يعقوب الخ ، الذين لم يعيشوا قبل بضعة قرون فقط ، و هى شخصيات ليست موضع شك ، لقد كانوا أناسًا فاضلين ، عاشوا منذ آلاف السنين ، وتميزوا بالنزاهة، فهل هو كثير جدًا بالنسبة لكم ، أن تسألوا أنفسكم تمامًا كما تتوقعوا منا أن نحترم مؤسسيكم وملوككم؟ يجب أن تحترموا بدوركم تاريخنا ، إنه تاريخنا ، أليس هذا منطقي؟ تمامًا كما تتوقعون منا تكريمكم. 
متابعًا حديثه قائلا: على سبيل المثال ، قبل أكثر من ثلاثة أميال ، قادنا موسى إلى أرض الميعاد ، وبعد حوالي أربعمائة عام قام حكامنا الملك داود و الملك سليمان بحماية مدينة القدس ، إنها قصتنا ، أليس هذا منطقيًا؟ تمامًا كما تتوقعوا منا أن نكرمكم.
و حينها يذكر ان أعضاء السفارة الاسرائلية شعروا بالتوتر من حديث الحاخام ألذى ابدى موقفًا حازمًا للغاية من القضايا التى يعتبرها لا تقبل الحياد و تشكل وطنية و قومية فكان موقفه صارمًا و حازمًا.
فى الوقت الذى خاف فيه الدبلوماسيين الاسرائليين من ان يؤدى هذا الخطاب لمزيد من التوتر السياسي بين إس*رائي*ل وفرنسا ، و كما توصف هذه الحادثة تاريخيًا صمت جميع من فى الغرفة، وأعضاء السفارة الاسرائليين أصبحوا شبه مقتنعين بأن الرئيس الفرنسي شيراك ، لن يخفي غضبه ، و قد يغادر مغلقًا الأبواب وراءه، و حسب وصفهم كانوا يخشون ان يكرر موقفه فى يوم 22 أكتوبر ، 1996 ،عند زيارته لمدينة أورشليم ، و كان الاسرائليون سعيدين بهذه الزيارة، لكن جهاز الأمن الاسرائليى ألتف بشكل كبير حول الوفد الفرنسي بهدف تأمينه على حد تعبيرهم ، و قطع الطريق أمام اى محاولة خارجية للتعدى عليهم، إلا أن الرئيس شيراك استاء من ذلك التصرف ، و كان حديثه للأجهزة الامنية صارم:
ماذا تريدون؟ أن أعود إلى الطائرة ؟ ان أعود إلى فرنسا ، هذا ما تريدونه، لا أريد مسلحين حولى، 
، لا يوجد خطر ، إنها ليست طريقة…الخ.

لكن على عكس توقعات الوفد الدبلوماسي الاس*رائ*يلى، قام الرئيس الفرنسي شيراك بمصافحته بحرارة ، ثم قام بتكريمه بميدالية لا تعطى إلا فى حالات خاصة لبعض رؤساء الدول في زيارة رسمية لفرنسا ، حيث عبر الرئيس الفرنسي عن اعجابه لما لمسه من ذكاء الخطاب و حكمة الرجل .

و عند زيارتى الشخصية لى Mémoire de la Shoah فى باريس حيث التوثيق التسلسلي التاريخي لعملية الإبادة الجماعية لليهود، الهولوكوست، لاحظت هناك توثيق لإمضاء مختلف الرؤساء الذين وقعوا و اعترفوا بهذه الج#ريم*ة البشعة و على رأسهم جاك شيراك ، ايمانويل ماكرون، و دومينيك دي فيلبان.

أذن من خلال موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك أحد حكماء السياسة الفرنسية يبدو ‎ان الأشخاص ذوي الهوية ثنائية الثقافة في فرنسا يمكن ان ينظر لهم ‎كنعمة تثري النسيج الاجتماعي وتسمح بالتبادل بين الثقافات و يمكن ان يساهموا فى ‎ان يجلبوا منظورًا فريدًا وانفتاحًا وفهمًا متعمقًا للثقافات المختلفة.

في ذات الوقت، لا يمكن نكران التحديات التي يمكن ان تواجه الأشخاص ذوي الهوية ثنائية الثقافة في فرنسا او اي بلد اخر، مثل حاجز اللغة، و إتقان الأعراف الاجتماعية و السلوكية، أحيانًا الشعور بالتمزق بين ثقافتين و محاولة المكافحة من أجل إيجاد شعور بالانتماء. و أسئلة قد تواجهم حول هويتهم الخاصة و أحيانًا ضغوطًا للتماهي مع ثقافة واحدة فقط علاوةً على الاخري، و في بعض الأحيان إدخالهم فى قوالب نمطية على أساس خلفيتهم الثقافية. كما يمكن ان يقعون ضحايا للتمييز أو العنصرية أو كره الأجانب، مما قد يجعل اندماجهم أكثر صعوبة.
و ختامًا تلعب عملية التوعية و التثقيف بقضايا التنوع الثقافي دورًا هامًا و فعالًا فى حماية النسيج الاجتماعي و مكافحة التمييز و إدارة التنوع بشكل سليم يجعل منه نعمة و ليس نغمة، يفتح الفرص أمام المواطنين والمقيمين بلا تمييز بغض النظر عن أصولهم و ثقافتهم، مع ضمان عدم هضم حقوق الأخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!