مقالات عامة

عن رفائيل بطي والصحافة الساخرة في العراق

وقع بين يدي مصادفة كتاب “الصحافة في العراق” من تأليف عميد الصحافة العراقية “رفائيل بطي” وجملة “وقع في يدي” لا تُعبِّر عن واقع الحال، لأنني في الواقع، وجدتُ نسخة إلكترونية صادرة حديثاً 2022 عن “مؤسسة هنداوي” فالكتاب إن -صحَّ التعبير- وقع على شاشة حاسوبي، وبالتالي انضم إلى مكتبتي الإلكترونية التي زادت عن عشرة آلاف كتاب والتي أنشأتها بعد أن هُجِّرتُ من موطني بفعل الحرب، وبالتالي هَجرتُ مكتبتي الورقية في مدينة “إدلب” في الشمال الغربي من سورية  نتيجة هذه الحرب التي أفنت البشر والشجر والحجر، وأكلت الأخضر واليابس، كما يُقال، وأعيش اليوم مع أسرتي في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة بلا مكتبة ورقية باستثناء مصحف بالرسم العثماني هدية من مواطن تركي في مدينة إزمير.

كتاب “رفائيل بطي” لُقية ثمينة لمن يُحسن تقديرها، فهو وثيقة مهمة وفريدة عن الصحافة العراقية في تلك الأيام التي عاش فيها رفائيل بطي عميد الصحافة العراقية. ورفائيل بطي أديب وصحفيٌّ عراقي يُعَد رائداً من رُواد الصحافة في الوطن العربي حيث أَطلق عليه أبناءُ جيله لقب “عميد الصحافة العراقية” كما أنه أول من ابتكر صفحة “العراق في الصفحات الأجنبية” ولا تزال الصحف العراقية تتبعها حتى الآن.

وُلِد رفائيل بطي عام ١٩٠١ في الموصل بالعراق، لأُسرة مسيحية أرثوذكسية عراقية، وقد تلقَّى تعليمه في المدارس الابتدائية الكَنَسية، وتخرَّج في مدرسة الآباء الدومنيكان العالية في عام ١٩١٤ بعدها ترك الموصل ليستأنف دراسته في دار المعلمين الابتدائية ببغداد، وقد تخرَّج فيها عام ١٩٢١، ثم التحق بكلية الحقوق عام ١٩٢٤، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩، ولكنه لم يُمارِس مهنة المحاماة.

عُيِّن أولًا مُعلمًا في مدرسة مار توما السريانية الأرثوذكسية، ثم عمِل مُدرساً في مدرسة اللاتين، وكان يُدرِّس فيها مادة الأدب العربي، كما تولَّى رئاسة تحرير جريدة “العراق” من عام ١٩٢١ حتى عام ١٩٢٤، ورئاسة مجلة “الحرية” التي أصدرها عام ١٩٢٣، وكانت أُولى المجلات الأدبية التي تَصدر في العراق في تلك الآونة، وقد انضمَّ إليها العديد من كبار الأُدباء والمثقفين العرب، وفي عام ١٩٢٩ أصدر جريدة “البلاد” اليومية، وبقيَت تَصدر حتى بعد وفاته، وهذه الجريدة تم إغلاقها أكثر من مرةٍ بسبب موقفها المُعارض لسياسة الانتداب البريطاني والأُسرة الملكية. وقد انتُخِب أيضًا نائباً عن البصرة لِسِتِّ دورات، ثم انتُخِب عميداً للصحفيين، وبعدها رحل إلى مصر وظل بها لمدة عامين، ثم عاد ثانيةً إلى العراق، وأصبح وزيراً للدولة لشؤون الدعاية والصحافة مرتين، وذلك في عهد وزارة فاضل الجمالي الأولى والثانية، ولكنه بعد أن أنهى مُدة وزارته الثانية فقدَ شعبيَّته ولم يستطِع حينها أن يعود إلى البرلمان مرةً أخرى.

له العديد من المؤلفات، نذكر منها: “الأدب العصري في العراق العربي” الذي يقع في جُزأين، و”أمين الريحاني في العراق” ومجموعة “الربيعيات” التي نشرتْها مجلة الحرية عام ١٩٢٥، وهي تتضمَّن أربع عشرة قصيدةً من الشعر المنثور، وأيضًا: “سحر الشعر” و”الصحافة في العراق”. تُوفِّي رفائيل بطي عام ١٩٥٦، عن عُمر يُناهِز خمسة وخمسين عامًا.

يعترف رفائيل بطي في كتابه بأن حظ السخرية في الصحافة العراقية كان ضئيلاً جداً. وأظن -والله أعلم- بأن الحال على هذا المنوال باق ما يزال حتى يومنا هذا؛ ونحن في أوائل العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. يقول مُرجعاً ذلك لعوامل أولها: العراقيّ جاد بطبعه، وبعيد عن روح الفكاهة والهزل بالمجمل، بخلاف المصريّ مثلاً، الذي تُخالج فكرته النكتة، ويفعم قلبه فرحاً على الدوام.

في مقال كتبه رفائيل بطي في مجلة “الرابطة” ببغداد في العدد الصادر يوم 28 إبريل/نيسان 1945يقول: أما والأصل في الصحافة أنها الوسيلة التي تترجم عن رغبات الجمهور والواسطة لتبادل الآراء بين أفراد الأمة وطبقاتها، وبين الهيئة الحاكمة والجماعات المحكومة فقد أصبحت مسألة حريتها أمَّ المسائل، فلا صحافة بدون حرية، إذ كيف يُراد من المُعبّر عن الرأي العام ونزعات الكافة أن يكون مُقيداً غير طليق، فهو إذن لا يؤدي مهمة هذا التعبير على وجهها الصحيح.

ولعل عميد الصحافة العراقية رفائيل بطي أماط اللثام في كتابه عن قضيّة مهمّة مازلنا نعاني منها حتى يومنا هذا: تخيل مراسلاً صحفياً يكتب قصة عن منزلك المُتهالك الذي تُقيم فيه على مضض و”مجبر أخوك لا بطل” والذي أصبح عملياً غير صالح للعيش والسكن. يريد المراسل فهم مشكلات هذا المنزل، وكيف يؤثّر ذلك على الأشخاص الذين ما زالوا قادرين على البقاء على قيد الحياة فيه، وما الذي يمكن فعله لجعل المنزل قابلاً للعيش مرة أخرى. لكن بدلاً من التحدث إلى صاحب العلاقة -ساكن البيت وعائلته- يذهب هذا المُراسل الصحفي – وحقيقة هذا ما يحدث اليوم- إلى مكتب رئيس البلدية ليستطلع أمر المنزل المُتهالك والقابل للانهيار في أيّة لحظة، ثمَّ ينتقل إلى مكتب تاجر عقارات ليحصل عل بعض المعلومات، ويذهب إلى باحث إسكان في إحدى الكليات الجامعيّة المحترمة في جميع أنحاء البلاد. ثمَ يجلس إلى مكتبه ويتحفنا بدراسة مبسترة لا دسم فيها وينشرها في الصحيفة التي يعمل بها. يقرأ الوزير المسؤول في الحكومة المقال ولا يُحرك ساكناً. وتسأل لماذا؟ لأن هذا النوع من الصحافة مقيد بأصفاد عديدة ويفتقر إلى أبسط مبادئ الحرية في العمل الصحفي. فكان لابد من وجود صحافة ساخرة تضرب على وتر الحكومات الحساس فتبه من يغلقون نوافذ مكاتبهم وسياراتهم وقلوبهم أيضاً.

ولعل المقالات الساخرة في الصحافة الحُرة لها تأثير “الأسلحة الماضية” في أروقة الحكومة وحتى في أروقة القصر الجمهوري أو الملكي، وهي -أي المقالات الساخرة- دليل عافية سياسية في أيّة دولة، أما غيابها في الصحافة، وغياب الصحافة الساخرة عموماً، لهو دليل لا لبس فيه عن ضيق صدر أهل السلطة من الكلمة الحُرة التي تؤرق مضجعهم وتهز أركان الدولة هزاً عنيفاً.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!