مقالات دينية

لاهوت القديس مكسيموس عن الله والكنيسة والعالم

لاهوت القديس مكسيموس عن الله والكنيسة والعالم

لاهوت القديس مكسيموس عن الله والكنيسة والعالم

بقلم / وردا إسحاق قلّو

    قبل الدخول إلى الموضوع علينا أن نتعرف قليلاً عن سيرة هذا القديس الذي ولد سنة 580م في القسطنطينية من عائلة مرموقة . إمتلك ذكاءً وقدرات خارقة في التأمل الفلسفي . إنخرط في فترة شبابه في السياسة فنالت قدراته إعجاب الإمبراطور هيراكليوس بعد توليه العرش سنة 610م فإختاره أميناً لسره الأول . وظل معه ثلاثة أعوام . لم يقتنع مكسيموس بحب سلطة هذا العالم لأن قلبه كان يمتلأ بحب الله فقرر ترك منصبه ليترهب في دير والدة الإله القريب من القسطنطينية .

بدأ بقراءة الكتاب المقدس والكتب الروحية . ومن ثم جاهد للتسلق في سلم الفضائل الإلهية فعاش في الصلاة والهدوء والتأمل الروحي ، وبعد ذلك شرع بالتأليف متناولاً موضوع الصراع ضد الأهواء الجسدية والعمل من أجل المحبة المقدسة ، لكنه أجبِرَ على مغادرةتلك المنطقة بسبب هجمات الأفار والفرس . هاجر إلى جزيرة كريت ، وهناك بدأ بمقاومة اللاهوتيين أصحاب الطبيعة الواحدة دفاعاً عن الإيمان المسيحي القويم . ثم أنتقل إلى قبرص وأخيراً إلى قرطاجة عام 632 م وهناك إلتقى بالقديس صفرونيوس الأورشليمي وهو أحد كبار العارفين بالتراث الرهباني واللاهوتي فإنضم إلى القديس مكسيموس .

 نؤمن أن اللاهوت ليس علماً فلسفياً ، بل هو علم خاص يربط الإنسان مع الله الذي خلقه ، لذلك هو فن الفنون ، وعلم العلوم وأكثرها أهمية لحاضر ومستقبل البشر .

   جاهد القديس مكسيموس في تعليمه إلى تأليه الخليقة ، وهذا مختصر ما كتبه عن هذا الموضوع :

( الله جعل الإنسان في العالم كاهناً يقيم سر الشكر الكوني . وهو مدعو إلى جمع الكائنات المخلوقة كلها لتقريبها إلى الكلمة الإلهي . كل خليقة ، في لغته . تعرف بتسمية ( كلمة ) ومجموع الخلائق ( كلمات ) وفي فهمه ، الإنسان يرفع ( الكلمات ) إلى ( كلمة الله ) الذي هو مبدأها . في حوار محبة حرّ من كل قيد . إذ يحقق الإنسان القصد الذي من أجله خلق . وهو الإتحاد بالله . يأتي بكل الكون أيضاً إلى الكمال في المسيح الذي هو إله وإنسان معاً ) .

 بعد هذه الكلمات نبدأ بمطالعة الفلسفة اللاهوتية التي كان يعيشها القديس ويعمل على تطبيقها .

   القديس مكسيموس المعترف تكلم عن لاهوت الكنيسة والإنسان بإسلوب آخر بعيد عن الدين وذلك من باب ربط العلاقة بين الله والإنسان والعالم . وركز على تحديد التعبير الأصح لتفسير الإيمان . ولم يقبل أي تفسير يسىء للحياة مع أيضاح مفاهيم المسيحية حول الإنسان ووحدته مع ذاته ومع العالم ، وكذلك مع الله وذلك بالإبتعاد عن اللغة الدينية الحصرية لكي لا ينحصر العمل  بالصلوات والطقوس التي لا يفهمها غير الإنسان المسيحي المؤمن . الكنيسة تعمل في العالم لتصير عالم العالم ، أو لتجعل العالم كنيسة ، ليأتي ملكوت الله على الأرض فيصير ( الله كلا ً في الكل ) ” 1 قور 28:15 ” وهذا الهدف مرتبط بما اراده المسيح الذي لم يأتي من أجل خراف بني إس*رائي*ل الضالة فقط ، ولا من أجل المسيحيين المؤمنين به فحسب ، بل لأجل خلاص كل العالم ، لهذا قال ( أما أنا فإنما أتيت لكيما تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر ) ” يو 10:10 ” . فللمسيح حضائر أخرى يرغب بخلاصها .  إذاً للكنيسة رسالة كونية لا تنحصر خدمتها للمؤمنين فقط لأنها يجب أن تشمل وتحتوي كل البشر لأنها حلقة الوصل بين الله والإنسان . والمؤمنون اليوم هم خدام لنقل نور الرسالة في عصرنا كما فعلوا أبناء الله الذين سبقوهم .

  رؤية القديس مكسيموس عن الله والإنسان والعالم يختصر لدية في صورة الكنيسة . فالكنيسة هي صورة الله لأنها تقوم بالعمل ذاته . وبواسطتها يعمل الله في العالم . وهو يشد كل العالم إليه . والكنيسة هي الرباط الذي يحقق هدف الله لأنه الصورة الروحية للعالم وللإنسان . والغاية النهائية للعالم والإنسان هي أن يصير الإنسان والعالم كنيسة مطيعة لله وتشكِّل الليتورجيا والقداس الإلهي خاصة لكي يتوحد العالم كله على مائدة الرب المقدسة . وهذا هو الشكل الأمثل لهذه العملية الكونية في رموز طقسية مقدسة ، وبها تم دفع الإنسان مع العالم ككنيسة للإرتفاع إلى الله ،أي من أجل تأله الخليقة.

   في الكنيسة صورة العالم كله المنظور وغير المنظور . وفيها صورة العالم الحسي أيضاً ، الأرضي والفردوس . البشري والملائكي الكنيسة تحتوي كل الثقافات والأقوام والبلدان تجمعهم بدون تميز. وما تطلبه منهم هو الإيمان الحقيقي الذي يقود إلى الوحدة والإتحاد مع الله .

  ما يجري في كنيسة الرب هو عمل الله والمؤمنين في الكون . وغاية الله من ذلك هو رفع الإنسان الوضيع إلى حالة ما فوق الطبيعة وقوانينها ومغرياتها ، أي بناء إنسان روحاني محب ، وعلاقته مع الله تجعله أن يتعاطى مع البشر بمسؤولية لأنه مكَلّف بتنويرهم لأجل خلاصهم . وهكذا الإنسان مدعو ليصير بالنعمة ما هو لله بالطبيعة . فتنتقل حياته من حياة بحسب اللحم والدم إلى حياة روحية .

   الكنيسة هي إستمرار لعمل المسيح على الأرض . إنها الخميرة التي يجب أن تُخمّر عجين العالم كلهُ . أيضاً أنها الملح الذي يجب أن يعطى للعالم طعمه لكي تتوحد الإنسانية الروحية حول الله الخالق . فكما أن الوحدة الروحية بين الرجل والمرأة تلغى بينهما الفوارق الطبيعية لتجعلهما كياناً واحداً . كذلك على صعيد الفوارق القومية والطبقية والعرقية ، لأن كل تلك الفوارق هي خدع بين البشر ، إدخلتها الخطيئة ، ولا يمكن إحتوائها إلا بالعودة إلى الطهارة والعيش بالروح والحق ، وطهارة الحياة التي تجعل العالم فردوساً من جديد يتوسطه ويثبّتهُ حضور الله بين البشر .

    في الختام نقول : ينبغي أن نعتمد على الفهم الإلهي لا على العلم والحكمة البشرية . وهل العلم يحرر الإنسان من التفرقة والتميّز والإستغلال ؟ وهل حكمة العالم تدفع الإنسان إلى مخافة الله ؟ فالحياة البشرية لا تؤمن بقيمة الفهم البشري ، وإنما الفهم الإلهي هو الكفيل بما يهم الإنسان ، فلا معنى للعالم حتى ولو كان مجتمعاً مثالياً , وهذه هي العلمنة ، أي توحيد العالم بأبعاد عالمية فقط . وأخطر جوانبها هي علمنة المسيحية ، والذي يتم حين يفسر الفهم فقط بالعقل ، بينما مسيحياً يجب أن يقود الفهم إلى الحكمة . أي أن المعارف والعلوم والتقدم الحضاري يجب أن تسير كلها نحو حضارة الروح ومصيره ، والروح هو الذي يقدس الزمان والمكان فيجعل الأرض ملكوتاً .

   توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة . فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن ) ” رو 16:1 “

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!