الفترة المظلمة
الفترة المظلمة
د . شاكر كتاب
أستاذ جامعي وناشط سياسي
في القرون الوسطى كانت السماء وغيبياتها وما فيها هي المحور المركزي للحضارة الأوربية والثقافة السائدة هناك آنذاك. وبما أن الإنسان البسيط لا يتصل بالسماء ويجهل تماما ما يجري في مظانها ومضاربها ولا يرى منها إلا الشمس والقمر والنجوم لذلك تبرعت الكنيسة أن تكون وسيطا بين الناس والسماء.
والحقيقة أن هذه المنزلة التي استحوذت عليها الكنيسة لنفسها هي إرث عميق في تاريخ القهر البشري باسم الآلهة تلقته الكنيسة الأوربية من المؤسسة الدينية التي كانت في العصور القديمة تحكم وتتحكم في بلاد ما بين النهرين وفي مصر الفرعونية والهند والصين. فكهنة مروخ وعشتار وأنليل وعشتار وآمون وآتون وغيرهم كانوا قد أسسوا وتوارثوا بعضهم عن بعض ما يمكن تسميته اليوم بالمؤسسة الدينية.
من اخطر ادعاءات كهنة الكنيسة في أوربا في العصور الوسطى – والتي بفضلهم اصطلح تاريخيا على تسميتها بالفترة المظلمة – وشيوخها وسادتها أنهم أبناء الله وأنهم مختارون من الله ومرسلون من قبله لتولي أمور العامة من الناس وهدايتهم والإفتاء بقضاياهم المصيرية.
بل أن بعضهم ادعى أنه مقرب من الله وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك مدعيا أنه يرتبط بالأنبياء بدرجات قربى ونسب وحفادة. لذلك كان من السهل عليهم أن يوهموا البسطاء من الناس أن صكوك الغفران بأياديهم وأن مفاتيح الجنة هم حاملوها وما على الإنسان البسيط إلا أن يكون تابعا مطيعا ذليلا لهم والسير وراءهم ووراء ما يقولونه.
الكنيسة الأوربية في القرون الوسطى عقدت حلفا مقدساً (جداً) مع الملك ومع الإقطاع بما يشبه الجبهة وتقاسمت معهم السلطة والمال العام ووسائل الإعلام وكل الثروات الطبيعية للبلدان ومشاريعها التنموية وسيطروا سويةً على الموارد الطبيعية ووعلى التصدير والإستيراد والمنافذ الحدودية وعلى القضاء والأجهزة الخاصة ومجالس المحافظات والمجلس النيابي الذي كان مرتبطا بجلالة الملك مباشرة الذي كان هو وبالتشاور مع الكنيسة وممثلي الإقطاع يقرر من يمكنه أن يكون عضوا في هذا المجلس ومن لا يسمح له أبدا حتى لو تطلب الأمر تزوير الانتخابات علنا أمام أعين ومسامع الناس وحتى حرق الصناديق إذا ما شعر جلالته بانكشاف حيلته. وغدا السواد اللون السائد في البلاد ومن هنا كما يبدو لي جاءت تسمية تلك الفترة بالمظلمة.
هذا الحلف غير المقدس وغير الشريف أصلا ما كان له ليدوم دونما معارضة شديدة تعمقت في أوساط الجماهير مع تعمق الوعي الوطني والسياسي والطبقي لدى المواطنين الذين شعروا بثقل الظروف المعيشية على حياتهم وعلى مستقبلهم ومستقبل الأجيال اللاحقة.
رافق هذا الوعي تكشف الفساد الظالم الذي تمارسه الطبقات الحاكمة بسلطاته التنفيذية ومؤسساتها التمثيلية وواجهاتها الدينية. فتجمعت أسباب الانتفاضة فتفجرت الكثير من حركات الرفض المطالبة بالتغيير واستمرت الحالة بين الثلاثي المظلم الحاكم وبين الجماهير حتى القرن التاسع عشر حيث وقعت انتقاضة 1831 وبعدها ثورة باريس 1848 التي مهدت لها الأزمة الاقتصادية الخانقة في في فرنسا وامتدت آثار الثورة لتتكرر في بريطانيا وفي بولندا وغيرها من الأقطار الأوربية.
صحيح أن الثورات قمعت بالحديد والنار ووقعت المجازر والاغتيالات والاتهامات الباطلة بالعمالة للأجنبي وللسفارات وللطرف الثالث والهبوط الأخلاقي وأن المظاهرات تقف وراءها أيادٍ خفية من وراء الحدود واتهمت بعضهم بالحنين للنظام السابق وما إلى ذلك. لكن كل ذلك لم يفت بعضد الثورة والجماهير فاضطرت السلطات إلى تنازلات عديدة شكلت أرضية ملائمة لمواصلة العمل التحرري الهادف للتعيير الجذري.
لقد بدأ الظلام يتشتت والأفق راحت تدخله قوى التغيير والبناء وشرع الصراع يأخذ منحىً جديدا إنتهى في اوربا بمغادرة الظلاميين للمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي وانتصرت الديمقراطية وتحققت في ضوئها إنجازات حضارية وثقافية راسخة على بنية تحتية هائلة واقتصاد متين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.