الطيار ليونارد من تدمير ناغازاكي إلى المسيح

الطيار ليونارد من تدمير ناغازاكي إلى المسيح

إعداد / وردا إسحاق قلّو

( لا يتعلمون الحرب بعد ذلك ) ” أش 4:1 “

   الطيار البريطاني ( ليونارد تشيشير ) من مواليد 1918 . تخرج من جامعة أوكسفورد في الحقوق . وفي عام 1939 التحق بسلاح الجو البريطاني وهو في الحادية والعشرون من عمره وحاز على أكبر عدد من الأوسمة ، وفي الحرب العالمية الثانية قام بمئات الطلعات العسكرية كخبير متفوق بإلقاء القنابل الحارقةوالمدمرة ضد القوات النازية ، أهمها قصف رهيب لمقر مهم في ميونيخ الذي سبب أشتعال النيران في جميع طوابقه ، فقلده الملك جورج الخامس في قصروندسور صليب الملكة فكتوريا ، وهو أرفع وسام حربي يعلق في صدر جندي بريطاني .

    كان الكابتن الطيار ليونارد ملحداً لا يعترف بوجود الله ، بل كان يعتقد بأن ضمير الإنسان هو إلهه . وقد جاهر بذلك في حفل تقليده الوسام الملكي ، فتصدت له إحدى السيدات بجوابها الجريئ ، فقالت له ( ما هذه الترهات ؟ إني أستغرب وأستنكر كيف أن ضابطاً ذكياً مثلك يتلفظ بمثل هذه الغباوة ، فالله هو شخص قائم بذاته ، عاقل وسرمدي … ) إنها المرة الأولى التي شعر بها الكابتن بالإهانةِ والهزيمة أمام إمرأةٍ مؤمنة وجريئة وفي موقفٍ رسمي . وفي القصر الملكي ، وأمام كبار المسؤولين البريطانيين . بعد هذه الصفعة العلنية التي هزت كبريائه أخذ يفكر ويقول : من يكون على حق ، أهو أم تلك المرأة ؟ فبقي مدة طويلة على إلحاده المكابر إلى أن دقَت ساعة الإيمان وعملت النعمة عملها في حينها .

   في عهد ( هاري ترومان ) رئيس الولايات المتحدة المريكية ، وحكومة حليفهِ ( ونستون تشرشل ) في بريطانيا ، وإنكسار ألمانيا ، وإنتحار رئيسها ه*ت*لر . أعلنت الحرب على اليابان ، فصدرت الأوامر بقصف مدينة هيروشيما بالقنبلة الذرية للمرة الأولى في 6 آب 1945 التي أسفرت عن مائة وأربعين ألف قتيل ، وحرق القسم الكبر من المدينة . وبعدها بثلاث أيام ، ألقيت القنبلة الثانية والأخيرة على مدينة ناغازاكي فسمع دوي رهيب ، وتصاعدت النيران والدخان وأشلاء الجثث ، وصراخ المتألمين في مشهدٍ جهنمي رهيب كأنه يوم القيامة ، وعلى الأرض سبعون ألف قتيل وعشرات الآلاف من المحروقين والجرحى . ومن الثابت أنه لم تكن طائرة الكابتن تشيشير هي التي قذفت المدينة بالقنبلة الحارقة ، بل كانت مهمته مواكبة الطائرة الجانية من لبفضاء ومن خارج الحدود الجوية للمدينة المنكوبة ، وهو يراقب كل شىء من فوق ويسجلهُ ، وهذا الذي حصل لم يبارح ذهن الطيّار الملحد ، بل لازمه ليل نهار . وقد صرحَ فيما بعد وقال ( لا فظاعة المشهد ولا إعلان إنكسار اليابان وإنتهء الحرب كانا كافيين لخلق الرعب من هذه الإبادة الوحشية ) التي طاولت ثاني مدينة في اليابان بعد ثلاثة أيام على الإبادة الأولى وإستسلام العدو ووقف الأعمال العسكرية .

 إستمر على هذه الحال ثلاث سنوات وأربعة أشهر ونصف الشهر ، وهو يتأمل ويُفَكِر بالقيام بخطوة جريئة نحو الله الذي ذكَّرتَهُ به تلك المرأة يوم تعليق الوسام على صدرهِ في القصر الملكي . وكان يتأرجح بين كنيسته الإنكليكانية القومية والكنيسة الكاثوليكية الرومانية . وبنتيجة هذا الصراع النفسي العنيف ، أصيب الكابتن بتدرن رئوي خطير ، وظل يفكر في قرارة نفسهِ بأن هناك قوة أقوى من الطاقة النووية ، وأن الله هو سيد الكائنات والأحداث ومصدر كل طاقة يفجرها الإنسان من الذرة .

  قَرَعَ باب غرفته في المستشفى رجل كاثوليكي عَرّفهُ بنفسِهِ بأنه كان رقيباً في فرقتهِ ، وهو الآن مصاب بالسرطان ، وقد أخرجوه من المستشفى لتعذر شفائه ، ولعدم مقدرتهِ من تسديد الرسوم . فما كان من الكابتن إلا أن تخلى له غرفته وسريره لينام هو على الحضيض ، وراح يخدمهُ في أيامه الأخيرة ، ولما شارف ‘لى الموت ، أستدعى له كاهناً كاثوليكياً ليمنحه الإسعافاا الروحية الأخيرة . ومات الرجل تاركاً على سريره كتاباً روحياً عنوانهُ ( رب واحد ، أيمان واحد ) فقرأهُ ليونارد بلهفة وتأثر به . وكان الكتاب بمثابة نور أضاء عتمة خطواته ، فنهض من المستشفى قاصداً كاهناً كاثوليكياً ليعطيه دروساً في التعليم المسيحي . وعشية عيد الميلاد 1948 جاهر الكابتن رسمياً وعلناً بإيمانه الجديد .

   زار مؤسسة كاثوليكية تقوم بالتبشير في إنكلترا وأقام مع أعضائها مدة شهرين يلقي المواعظ عن المسيح إله الحب والرحمة والمغفرة . ومن هناك أخذ ينظم رحلات أسبوعية بالطائرة إلى مزار العذراء في لورد حاملاً إليها المرضى والمتألمين على نفقتهِ الخاصة مما ورثه من والديهِ ومن تعويضاته في الخدمة العسكرية . وقرر أن يبقى عازباً للقيام برسالته على أكمل وجه .

   قرر إنشاء مؤسسة إنسانية تعنى بالمبتلين بمختلف الأمراض ، وكان قد أبتاع منزلاً واسعاً ليجعله مركزاً لتعاونية زراعية ، فحوله إلى مأوى لذوي الإحتياجات الخاصة ، ثم وسعهُ ببناء جناح كبير وضع في أساسه تمثالاً للعذراء مريم . كان الكابتن في المستشفى . ألقى كلمة عبر الإذاعة سمعها الكثيرين من المحسنين فغمروه بالتبرعات والتشجيع مما دفعه إلى فتح مركز آخر على أسم القديسة تريزيا الطفل يسوع . كان ليونارد يزور كل المرضى ويخدمهم ويؤانسهم ويحدثهم عن حب الله وعنايته ، وعن المسيح المصلوب والمتألم والمائت والناهض من الموت حباً بخلائقهِ دون أن يتميز بين مسيحي وغير مسيحي .

   في عام 1961 مر بلبنان في طريقه إلى الهند وزار مؤسسة الصم والبكم . وفي 6 أيار 1992 ( في الشهر المريمي ) أشتدت عليه وطأة الشيخوخة والأمراض ، فأسلم روحه إلى الله بين يدي يسوع ومريم ، وأقيم له مأتم رسمي وشعبي خاشع . رثاهُ رئيس الحكومة جون مايجر بإسم الملكة إليزابيث الثانية والأمة البريطانية والمؤسسات الإنسانية التي أنشأها في كل مكان . ليكافؤه الرب مع القديسين الأبرار في فردوس النعيم . 

Exit mobile version