الشماس “كوركيس عوديشو فرنسو” من أهالي دهوك في الذاكرة
الشماس “كوركيس عوديشو فرنسو”
من أهالي دهوك في الذاكرة
د. عبدالله مرقس رابي
من دراسة تاريخ وحاضر المجتمعات المحلية يتبين جلياً وجود اشخاص قدموا اعمالاً زاخرة بالعطاءات في مختلف الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والدينية، وأحيانا قد يبرزوا في مجال معين قياساً للآخرين. تبقى منجزاتهم المتميزة وشخصيتهم في ذاكرة الأجيال لاحقاً، وذلك لما تترك مآثرهم من الفضائل والمحاسن والمكارم من انعكاساتٍ نفسية في مشاعرهم وتفكيرهم، فيتذكرونهم في كل مناسبة او حدث او لقاء، فالمؤثر في المجتمع المحلي هو من استطاع ان يكون مميزاً ويكون قدوة للآخرين.
وقد لفت انتباهي لأكتب هذه الكلمة، مشاهدة لقاءات إعلامية لأشخاص تذكروا اسهامات ودور الشماس (كوركيس عوديشو فرنسو) من أهالي دهوك، إضافة لما وُرد على ألسُن الطلبة المانكيشيين الذين أكملوا دراستهم الثانوية في دهوك خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، اثناء مقابلتي لهم لجمع المعلومات لتأليف كتاب مانكيش، كما وردتني المعلومات عنه من تلميذيه (المحامي الشماس افرام فضيل، والشماس شمال توما) حديثاً.
ولد الشماس كوركيس عوديشو عام 1908في محلة المسيحيين الكلدان المعروفة بمحلة النصارى على المستوى الرسمي في مدينة دهوك، وقد أنهى دراسته الابتدائية، واراد الالتحاق بدورة تعليمية في الموصل ليتخرج معلماً الا ان والده منعه خوفاً من انه يفقد ابنه الوحيد كمساعدٍ له في الاعمال الزراعية.
لكن كوركيس الابن بالرغم من عمله في الحقول الزراعية من الكروم والبساتين والأراضي الديمية التي امتلكتها العائلة، لولعه بالعلم والمعرفة، جدَّ وواظب ايضاً في تعلمه اللغة العربية والكلدانية والطقوس الكنسية، فأصبح بليغاً في اللغة ومتقناً للطقس وبارعاً وحافظاً لتشعباته وتوزيعاته وألحانه على مدار أيام السنة الطقسية، فرُسم شماساً رسائلياً في منتصف الاربعينات من القرن الماضي، بالإضافة الى انه اتقن اللغة الكوردية بطلاقة.
ولتميزه في اتقان اللغة وسعة معلوماته الدينية وذكائه وبراعته، عمل معلماً لدَرسَي اللغة الكلدانية والتعليم المسيحي في مدرسة الطاهرة الاهلية الكلدانية في دهوك المؤسسة عام 1931، وقد جاء تسلسله في قائمة معلمي المدرسة رقم (5) من بين المعلمين الذين خدموا في المدرسة المذكورة منذ مطلع الستينات والى سنة تأميم المدرسة في منتصف السبعينات من القرن الماضي. يُذكر عنه كان حريصاً على تعليم الطلبة، واحياناً كان قاسياً مع المهملين.
لم يكتف حينها الشماس كوركيس بالتعليم في المدرسة أثناء ساعات الدوام والدروس الاضافية، بل كان يطلب من الطلبة الحضور في داره ليقدم لهم المزيد من الدروس، وبالأخص في فصل الصيف رغم الحر الشديد مضحياً براحته ووقته، وذلك من اجل رفع مستواهم في اللغة والالحان الكنسية والترجمة من اللغة الكلدانية القديمة الى الحديثة (السواذايا) وتعليم الصلوات الطقسية وخاصة ليوم الاحاد والاعياد وصلوات الرمش لتهيئتهم للرسامة الرسائلية. يذكر طلبته، انه تمتع بأسلوب رائع وشيق في التدريس، جعلهم يندمجون مع الدرس بحيث لا يشعرون بالوقت، بل التشوق الدائم لدروسه، ولتخليص الطلبة من الملل، كان يروي لهم قصصاً للقديسين وأخرى فكاهية لتلطيف أجواء الدرس.
من الطلبة الشمامسة الذين بدأ معهم في داره: افرام بهرو، راسم هرمز، شمال توما، اميل عمانوئيل، جنان ياقو، وسلام سيفو، رمزي اوراها، بهنام يونس) وزاد عددهم الى أكثر من عشرة تلميذٍ. وبقي هؤلاء التلاميذ مع الشماس كوركيس منذ المرحلة الابتدائية ولغاية التحاق بعضهم بالكليات والمعاهد، واستمرت زيارتهم له في داره لاستشارته ولنهل الكثير من المعرفة، وقسم منهم لم يستمروا لظروفهم الخاصة بهم.
إضافة الى تعليم اللغة والالحان، درَّب الشمامسة على اداء رتبة (كياسا) المعروفة التي تقدم في اليوم الثاني من عيد القيامة، ويتذكر الشماس (افرام) انه في احدى السنوات طلب منه أداء دور الملاك حارس الفردوس، وكان الأداء لتلك السنة متميزاً حيث جهز الشماس اجنحة من الخشب مغلفة بالقماش الأبيض لربطها على ظهر الملاك، مما اضفى على المشهد اثارةً وتقبلاً من المؤمنين أكثر من الحالات المعتادة.
ألفَّ الشماس كوركيس العديد من (الشورايي) لعيد القيامة قرأها هو او غيره، والشورايي عبارة عن شعر هزلي، او نثر لوصف أحد الأشخاص من المجتمع المحلي من اجل الضحك والمرح والابتهاج. ولحرصه الشديد لتشجيع تلاميذه لأداء الطقوس في الكنيسة، وقد كتب رسائل بولس الرسول التي تُتلى في الكنيسة اثناء القداس بالكرشوني، أي اللغة الكلدانية والكتابة بالأحرف العربية، ليدربهم كخطوة أولى لقراءة الرسائل.
كان من ثمار جهوده في تعليم الشباب هو رسامة ستة من تلاميذه شمامسة رسائليين سنة 1979 وهم (افرام بهرو، راسم هرمز، شمال توما، اميل عمانوئيل، جنان ياقو، وسلام ميخو)، وبالمناسبة، يذكر المحامي الشماس افرام بهرو (لا يمكنني ان أنسى البدلة التي اهداها لي الشماس كوركيس بمناسبة رسامتي الرسائلية) ويستطرد قولا هو وزملائه: ان الشماس كوركيس كان مح*بو-باً من قبل أهالي دهوك، ونظل نتذكره في كل مناسبة لأنه يستحق ان تبقي ذكراه منقوشة في ذاكرتنا.
وعند جمع المعلومات عن بلدة مانكيش لتأليف كتاب (مانكيش بين الماضي والحاضر)، قابلت العديد من ابناء بلدة مانكيش الذين وفدوا الى دهوك لإكمال دراستهم الثانوية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فهم يتذكرون مآثر الشماس كوركيس مثلما يتذكرها أهالي دهوك، حيث نزلوا في داره او أجَّروا غرفٍ في دور أخرى ، فيتذكرون الاهتمام والرعاية التي تلقوها منه لتدبير شؤونهم وتلبية حاجاتهم، ولهم ذكريات جميلة رسخت في ذاكرتهم معه، بحسب اقوالهم، كانوا يجتمعون كل مساءٍ في داره الى جانب من يقيم في الدار من بينهم، ويستمتعون بأوقات مسلية معه، فيتذكرون طيبته وكرمه وافعاله المسلية والمريحة، إضافة الى الاستمتاع بالقصص التي يرويها لهم.
كان الشماس كوركيس الى جانب ممارسته التعليم في مدرسة الطاهرة واهتمامه بالتلاميذ الراغبين في تعلم اللغة الكلدانية والطقوس الكنسية، قد عمل كاتباً للعرائض، وامينا للصندوق ووكيلاً لأحد التجار الجملة المختص بالفواكه والخضراوات (جاسم ليلو)، كما عمل مزارعاً في عقاراته الزراعية الديمية، لزراعة الح*بو-ب والكروم، وحقل الفاكهة والخضراوات في وادي دهوك.
توفي الشماس كوركيس عوديشو في شباط من عام 1985، ولكن بقت مآثره في ذاكرة محبيه ومَن التقاهم في حياتهم من أهالي دهوك من المسيحيين والمسلمين. ويشهدون له بانه كان كريماً، لطيفاً، محباً للتعاون، مرحاً، متواضعاً، نزيهاً ومحباً من الجميع.