الجندي المجهول القديم والمرتقب وج#ريم*ة أعدام الفنون

الكاتب: وردااسحاق
الجندي المجهول القديم والمرتقب وج#ريم*ة أعدام الفنون

 
لبلدان كثيرة رموزاً شاخصة ترمز الى الجنود المجهولين الذين سقطوا ضحايا الدفاع عن تربة وطنهم .
من هو الجندي المجهول ، ومن أين ولدت فكرة تشيّد النصب تخليداً لذكراهم ؟
الجنود المجهولون هم أؤلئك الأبطال الذين لقوا حتفهم في معارك الشرف دفاعاً عن تربة الوطن ، ولم يعثر عن جثثهم أو لا يمكن التعرف عليها لتسليمها لذويهم ، فقررت حكوماتهم بتكريمهم بتشيّد نصب تذكاري يليق بعملهم البطولي . أول ضريح للجندي المجهول يعود الى عام 1858 وهو ضريح ( جندي المشاة ) في الدانمارك بعد حرب سكيلسفيغ الأولى . ويليه ضريح أحداث الحروب الأهلية في أميركا ، أقيم عام 1866. أما بعد الحرب العالمية الأولى فقررت بعض الدول كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأيطاليا بتكريم شهدائها بتصميم نصباً فنياً أو ضريحاً في أرض العاصمة أو بالقرب منها يرمز الى قبر ذلك الجندي المجهول .
في الحرب العالمية الأولى أصبح عدد الجنود الذين لم يكن بالأمكان التعرف على هويتهم عدداً هائلاً. فبدأت فرنسا عام 1920 بتأسيس أول ضريح لجنودها المجهولين في ساحة ( الايترال) الآن تسمى ساحة ( شارل ديغول ) تحت قوس النصر . هكذا بدأ بلدان كثيرة بتكريم شهدائها أيضاً .
أما العراق فبعد ثورة 14 تموز طلب الزعيم عبدالكريم قاسم بتصميم وتنفيذ نصب للجندي المجهول. نقول وهل للعراق جنود مجهولين فقدوا بعد تأسيس دولة العراق الحديث ؟ هل خاض العراق معارك بعد تلك الفترة لكي يكون له جنوداً شهداء مجهولين ؟ أم هل نقدر أن نعتبر العراقيون الذين سقطوا في معارك الحرب العالمية الأولى في الجيش العثماني والذين سيقوا الى تلك المعارك عنوة ً فق*ت*لوا في أرض المعركة ، أولئك المظلومين هل نعتبرهم جنود عراقيون أم مرتزقة في الجيش العثماني ؟
أختار الزعيم عبدالكريم قاسم المهندس المعماري رفعت كامل الجادرجي لتصميم نصب الجندي المجهول في أرض أختارها الزعيم وهي ساحة الفردوس التي أعتبرها بوابة دخول الجيش العراقي لتحرير بغداد من النظام الملكي .

تم تصميم وتنفيذ النصب في عام 1959 من قبل المهندس رفعت الجادرجي . ومن هو الجادرجي ؟ رفعت الجادرجي ولد عام 1926 وهو أبن الصحفي العراقي المعروف كامل الجادرجي الذي كان أشهر الصحفيين في عقد الثلاثينات من القرن الماضي . أكمل رفعت دراسته في مدرسة ( هامر سميث للحرف والفنون ) في بريطانيا وبعدها عاد الى بغداد لكي يقدم لها خدماته العمرانية والفنية . أعطى أهتماماً كبيراً للمباني المعمارية التراثية خاصة في شارع الرشيد ، كالشناشيل المتكونة من النوافذ الخشبية والتيجان والأقواس الظاهرة في المباني المطلة على شارع الرشيد ، والمقرصنات الحديدية البارزة في المباني . أشترك الجادرجي في معارض عالمية عديدة والخاصة بمسابقات التصاميم المعمارية . أنجز عشرات المشاريع العمرانية كمهندس معماري في بغداد ، منها مبنى دائرة البريد والأتصالات في السنك . ومبنى أتحاد الصناعات العراقي . نال جوائز كثيرة ومنها جائزة الشيخ زايد عن كتابه ( في جدلية وسببية العمارة ) كما له مؤلفات كثيرة . كما كان أستاذاً زائراً في جامعة هارفارد بين عامي 1984-1986 وكذلك في قسم العمارة في مدرسة (بارتلت )  بلندن . ومحاضراً في فلسفة الفن والعمارة والأنتروبولوجيا وعلم الأجتماع في جامعة السودان وتونس والبحرين . كل هذه المشاريع والمؤلفات والقدرات والمواهب التي كان يمتلكها ، لكن كان نصب الجندي المجهول الأبرز في حياته . هذا النصب التذكاري الذي صممه وأدخل فيه الفن والمعمار الهندسي والخدع البصري والبساطة في المظهر لأن النصب كان على شكل جدارمقوس عالي شبه مدبب في الأعلى . أما في قاعدتيه فيوجد نافذتين على شكل هلال ونهايات الهلالين هي قاعدة النصب . كان هذا النصب يحمل الكثير من المعاني الفنية والحضارية أضافة الى كونه رمزاً وطنياً شامخاً . بعد تنفيذه تم تغليفه بنوع من الحجر الأبيض الأيطالي الذي تم أستيراده لتغليف النصب وكذلك لتغليف جدار وقاعدة نصب الحرية الذي هو من تصميم الجادرجي أيضاً . نجد في نصب الجندي المجهول قياسات دقيقة وفضاءات وزوايا وأنحدارات مصممة ومبنية على أسس علمية حديثة ، تعود جذورها الى الحضارة السومرية القديمة والرومانية . تعاقبت أنظمة الحكم في العراق الى أن جاء حكم البعث . في عاد 1977 ألقي الجادرجي في سجن أبو غريب لمدة 20 شهراً . لا نعلم الأسباب . أما سبب أطلاق سراحه ، فكان في فترة أستعداد العراق لأستضافة مؤتمر عدم الأنحياز طلب صدام حسين مقابلة أشهر المعماريين لتكليفهم بأعادة التنظيم العمراني لبعض المناطق في العاصمة فأخبر بوجود أشهر المعماريين في السجن . أمر بأطلاقه ليتفرغ لتلك المهمة . وهذه القصة تشبه قصة يوسف الصديق الذي كان منسياً في السجن لحين الحاجة اليه لتفسير أحلام فرعون . نفهم من هذا بأن الجادرجي كان تحت أنظار السلطة قبل هدم صرحه الفني في ساحة الفردوس .  في 4 تشرين الثاني 1982 تم تهديم النصب لوضع تمثال الرئيس صدام في نفس الساحة . وكان قد شيّد في حينها نصب الجندي المجهول الذي صممه الفنان خالد الرحال في ساحة الأحتفالات الكرى قرب قوس النصر .

 نسأل ونقول هل كانت فكرة تشيّد النصب الجديد نابعة من فكر القيادة العراقية ؟ أولاً الفكرة لم تكن في عهد صدام حسين بل في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، طرحت في حينها من قبل النحات العراقي خالد الرحال ( أنه نفس الفنان الذي طرح فكرة وضع تمثال عبدالكريم قاسم في نصب الحرية وهنا يخطط لنصب جديد يكون السبب في أعدام النصب الذي أعده الزعيم ) . طالع مقالنا :
http://mangish.com/forum.php?action=view&id=4380
أذاً الرحال هو الذي زرع البذرة في عهد البكرفنمت في عقول القيادة الى أن نضجت في عهد صدام فتم التهديم فتحقق حلم الرحال .

غادر الجادرجي العراق في عام 1993 واستقر في لبنان وأسس هناك مركز أبحاث حمل اسمه وتفرغ للبحث عن فلسفة العمارة ونظريتها . عاد الى بغداد بعد أن غادرها لمدة عقدين حاملاً معه تصاميم لأعادة بناء النصب في مكانه الأصلي . يقول الجادرجي : ( أقوم بأنجاز التصاميم الأولية للنصب بعد أن تم تكليفي من قبل الجهات الحكومية لغرض أعادة أنشائه في مكانه وبالطراز ذاته وهذا شىء هام بالنسبة لي مثلما كان النصب يشكل أهمية استثنائية عند أنشائه لأول مرة ) . نقول : هل سيعيد النصب فعلاً مكانته وجماله وهيبته كما كان في السابق ، أم سيبقى معدوماً رغم أنشائه ؟ يقال بأنه سيكون في النصب الجديد تعديلات وأضافات مثل أدخال التكنولوجيا الحديثة والأضاءة الليزرية والألوان . صرح المهندس المعماري حميد عبد أنه سيشرف على بناء النصب بينما الجادرجي البالغ من العمر 87 سنة سيقوم بزيارة موقع العمل وحسب ما تسمح صحته .
نقول بأن النصب سيبقى معدوماً حتى بعد تشييده لسببين ، الأول : لأنه فقد هيبته بعد تشييد فنادق شاهقة حوله فأرتفاعه الذي كنا نراه شاهقاً سيظهر وضيعاً بين تلك الأبراج . أما أجيال اليوم والمستقبل فلا يعطوا له أهمية تليق به كما كان في تلك الحقبة . أما السبب الثاني : لا يجوز أن يكون في مدينة واحدة نصبين للجندي المجهول وأن كان للبلد نصبين فيجب أن يكون كل منهما في مدينة كما هو الحال في مصر ( القاهرة والأسكندرية ) .
من أين جاءت فكرة أعادة النصب القديم ، ومن ثم هل سيُنتقِم من نصب الجندي المجهول الذي صممه الرحال وكلف الدولة أموالاً طائلة أضافة الى القيمة الفنية والحضارية والمعنوية والجمالية التي يحملها النصب ؟ العراق معروف قديماً في أعدام وتدمير معالم تراثية قديمة ورموز للأضرحة والمعابد الدينية لمعتقدات كثيرة  ، لم تسلم من معاول الحاقدين والمنتقمين . أما العراق الجديد فثورة 14 تموز منذ أيامها الأولى ألقت بتماثيل الملك وجنرال موت في النهر بدلاً من الأحتفاظ بها في متاحف لكي تحكي للأجيال تاريخ تلك الفترة . ألم يكن الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية ؟ وهكذا فعلوا برموز عبدالكريم قاسم فأزيل كل شىء له حتى شعار العراق الجميل وعلمه .
 
 

في الختام نقول ما زلنا مرضى ولم نشفى من أحقادنا ونسير على خطى أسلافنا فأمسكنا نحن أيضاً معاول الحقد والأنتقام في أيادينا فكسرنا بها أبواب المتاحف منذ فجر ثورة العراق الديمقراطي الجديد . وما زلنا نهدم بكنوزنا الفنية ، منها سرقت لتصهر لغرض الحصول على مادة البرونز التي تتكون منها . هكذا فقد العراق الكثير من الأعمال الفنية لفنانين رواد كجواد سليم وخالد الرحال واسماعيل فتاح الترك  وغيرهم . أما مخطط الهدم فمستمر وسيشمل نصب الشهيد وقوس النصرالذي هو على شكل سيفين ممسوكتان بيدي صدام حسين وتحته 5000 خوذة للجنود الأيرانيين ، ويرمز القوس الى هزيمة ايران في القادسية الثانية  . كذلك يشمل المخطط أزالة نصب اللقاء الذي يرمز الى الوحدة الوطنية .  ونصب الجندي المجهول الذي فيه قبر الفنان خالد الرحال . كل هذه الأعمال الأنتقامية مثبتة في قوائم تصفية الحسابات . أنها قوائم أجتثاث البعث ورموزه . وهكذا تم تفجير تمثال رأس الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور باني مدينة بغداد وأخذ الرأس الى مكان مجهول .

 
 كما سرق تمثال رئيس الوزراء العراقي لفترة منتصف العشرينات ( عبدالمحسن السعدون ) في ساحة النصر – شارع السعدون . كما قطعت أجزاء من تمثالي شهرزاد وشهريال في أبو نواس . كذلك أزيلت تماثيل قادة الفرق والفيالق التي كانت على ضفاف شط العرب وغيرها.
فقد العراق تماثيل وآثار لا تقدر بثمن وسيفقد كل معالمه المتميزة وفنونه المعاصرة اذا لم نعقل لكي تهدأ فينا عاصفة الحقد والأنتقام .
بقلم الفنان الشكيلي
وردا أسحاق عيسى
ونزرد – كندا  ..