الحوار الهاديء

مذكراتي / د. محمود عباس

الكاتب: د. محمود عباس
مذكراتي
 
  لا أتذكر ولادتي، ولا أول قبلة لوالدتي ووالدي، ولا أتذكر طعم القطرة الأولى من الحليب، ولا يوم فطمت، ولا الخطوة الأولى، ولا تعثري، ولا أتذكر أول عراك بيني وبين أخوتي، ولا أتذكر أول مرة سمعت فيها كلمة كردستان، ولا اللحظة التي شرح لي فيها بأنني كردي، وأنتمي إلى وطن لا وجود له بين الجغرافيات، لكنني أتذكر أن بيتنا كان مليئاً دائما بالأطفال من عمري أو أكبر، وكنا نتكلم لغة واحدة مفهومة من الجميع، وكانت لغة القرية والقرى التي زرتها، وأتذكر مدرستنا المبنية من الطين وبغرفتين والتي عمرها والدي، وأتذكر كيف كنت أعد الشهور الأخيرة من السنة قبل بدأ الدراسة، وكنت لا أزال في الخامسة من عمري، ولم أكن أعلم أنني  سأنقب ضمن جدرانها في لغة لا أفهمها، وأتذكر أول محفظة أشتراها لي والدي ومثلها لأخي أكرم، بلونين مختلفين، وأتذكر كيف منعت أخي إبراهيم من لمسها، لأنه كان دون سن المدرسة، وأتذكر أول مرة فرض علينا تكرار حروف لغة لم تتوافق ولغتنا اليومية الدارجة ضمن أزقة نصران، أتذكر كيف كنا نبدع في الحساب، ونتلكأ في القراءة، أتذكر أول مرة فهمت فيها مقطع من الكتب التي كنا نقرأها كطلاسم، فكانت الدهشة، أتذكر أول مرة فرض عليِّ غرامة، وعقوبة، لأنني تكلمت الكردية مع صديقي في الصف.
  لا أتذكر بدايات اهتماماتي بالسياسة، ولا معرفة من يحكم من، ولا أتذكر من شرح لي صفات السلطة الحاكمة ونوعيتها، لكنني أتذكر وأنا في الصف السابع، وفي أول أسبوع من الدوام في مدرسة عمر بن الخطاب، جوابي للمدير عندما سألني والطلاب عن جنسيتنا، فقلت له بعفوية الطالب القروي القادم من القرية، كردي سوري، وكان الدارج بدون نقاش كلمة عربي سوري، أتذكر خوفه أكثر من حنقه، فقد كان من أهالي القامشلي، وأتذكر كيف أخرجني من الصف وأرسلني إلى البيت لأعود مع ولي أمري. وأتذكر أول مداهمة للأمن السياسي على بيتنا، وأول أحاديث والدي وأخوتي عن الإحصاء، والاستيلاء على أراضي الكرد، وأتذكر النقاشات حول مصير الكرد الذين أجبروا على عدم الرعي بأطراف القرى وفي البيادر، وأتذكر عندما كان أخي صبري يقول لنا بأنه يجري هذا التعامل الفج والمرعب لقرانا لأننا كرد، ونحن تحت استعمار عربي، وهناك في طرف آخر استعمار تركي وفارسي، أتذكر مع ذلك كنا نستمع إلى الأغاني التركية والفارسية، دون أن نشعر بعنصرية في الواقع الموسيقي، وأتذكر أول صراع سياسي حول الأممية والقومية بيني وبين أخي أحمد صابر.
  أنني مثال عن كل كردي، ذاكرتي لا تشبه أية ذاكرة في الكون، فيها من التناقضات ما يحتاج إلى علماء كفرويد لتحليله، وإنقاذه من الدمار، التناقضات السياسية، صراع بين الذات والذات، وخلافات على الانتماءات، تشوهات في الحب والكراهية، لا أشبه الأخرين بحبي، ولا كراهيتي تصل إلى سوية الكارهين، فرض علي حب اللاوجود قبل الوجود، الوطن قبل الإنسان، والانتماء إلى ماهية لا تزال في العدم، في الوقت الذي ينتمي في الأخرون إلى وطن وكيان، يفكرون في تطوير أبعاد لا  تزال أحلام بالنسبة لي، هناك من يحب لتكوين سعادة، لا لإثبات الذات مثلي.
 أتذكر يوم كتبت الشعر لا لحب في القافية، التي كنت ولا أزال أتلكأ فيها، أو لذة بالنغم الموسيقي، والصور الفكرية، بل لإبراز رغبة لم أتمكن من التصريح به بشكل مباشر، أتذكر يوم رأيت في يد أخي صبري كتاب مكتوب بلغة لم أعرف قراءتها، وأتذكر عندما قال لي أنها بالحروف واللغة الكردية، وذكر بأنه لدى الكرد أيضا شعراء وكتاب ومفكرين.
   أتذكر يوم كنت أتصيد وأصدقائي من القرية على ضفاف سوبلاخ، وركضنا فجأة، وبدون مقدمات، نحو ديوان الوالد لإبلاغ أهالينا باقتراب سيارة (الريجي) ليخفوا تبغهم، ومرة أخرى لنقول لهم أن الشرطة داهم القطيع وأخذوا خروفا على اللاتعيين، دون أن يتجرأ الراعي من منعهم.
   أتذكر شتاء نصران، قريتي الوادعة الهادئة، بأزقتها المليئة بالأوحال، ولياليها القارسة، والتفافنا حول المدفأة، و الدفء الذي كان يصيب طرف من الجسم دون طرف، أتذكر حكايات العمة جازوا لنا حولها، أتذكر المراحل التي تطورت فيها المدفأة من الحطب وروث الحيوانات إلى المازوت، وأتذكر صيفها القائظ، والساعات الطوال تحت أشجار الصفصاف على ضفاف سوبلاخ، وصيد السمك والعصافير لنحصل على قطعة لحم، أتذكر عتمة لياليها الطويلة ومعظم أنواع اللعب، (  cavcinkê, bûka mira here û hat , tûştê, û çirê…û….).
   ماض خليط بين السعادة والكآبة، وحياة مليئة بالمعاناة والقساوة واللذة الطفولية، ذكريات مؤلمة وجميلة تعلمت بعمقه، كيفية الصراع مع البيئة القاسية، ومجابهة الطغاة، لقد كانا عدوين متلازمين، فالثاني كان يحاول استدامة الأول، لتبقينا والمنطقة في عوز دائم لا راحة فيها، وتعزل الشعب من التفكير بقادم أفضل.
 أتذكر الماضي لذيذا، بكل تناقضاته، بقساوته ورخاوته، بسلبياته وإيجابياته، يتبدى حلوا أمام الحاضر المر، والغربة المقيتة، رغم النعمة والراحة، فالسعادة لا تنحصر في الأبعاد المادية وحدها، لذلك أجد ذاتي سعيدا بذكريات متلاطمة، في منطقة كانت غارقة ولا تزال في المعاناة وقساوة الحياة، والتخلف الحضاري المادي، وأعلم أن الأوضاع ازدادت سوءً في تلك القرية الوادعة(نصران) وبأبشع صورها، مع ذلك ذكرياتها لا تغيب عن مخيلتي لحظة، أسرد بين فينة وأخرى فتات منها لطفلي (ديار وبراف) وأعرضها بثياب براقة، إلى أن أصبح حلمهم رؤيتها، واللعب مع أطفالها، وتعلم تلك الألعاب التي لعبتها يوما في أزقتها وبيادرها. كنا  سعداء رغم جور الطغاة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
1/28/2016
 
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(45) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.
 
 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!