مقالات

دول الساحل غير الساحلية

تمتد منطقة الساحل في حزام جغرافي واسع من الشرق بدءاً من إريتريا على البحر الأحمر إلى أقصى الغرب حتى موريتانيا على المحيط الأطلسي، تشمل أجزاء من أراضي كافة الدول المارة فيها، وبذلك لا توجد دولة تقع بشكل كامل في منطقة الساحل، وأوسع أجزاء الساحل يقع في كل من النيجر ومالي، في 2014 عمدت خمس دول وهي بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر إلى تأسيس إطار لتنسيق التعاون الإقليمي في سياسات التنمية والشؤون الأمنية، مما يوحي ان المجموعة نشأت تحت الطلب الخارجي لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة، ومع توالي الانقلابات العسكرية التي حملت الى سدة الحكم نخب جديدة رفعت شعار التحرر من التبعية الغربية خاصة الفرنسية، أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي في 16 ماي 2022 ، وفي 2 دجنبر 2023 أعلنت بوركينا فاسو والنيجر ، انسحابهما من مجموعة دول الساحل الخمس، وجاء في بيان مشترك لحكومتي البلدين ” لا يمكن لمجموعة الخمس في الساحل أن تخدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، ناهيك عن قبول إملاءات أي قوة مهما كانت باسم شراكة مضللة وطفولية تنكر حق سيادة شعوبنا ودولنا، ولذلك، فقد تحملت بوركينا فاسو والنيجر بكل وضوح المسؤولية التاريخية بالانسحاب من هذه المنظمة”. امام هذا الواقع الجديد قررت كل من تشاد وموريتانيا تنفيذ جميع التدابير اللازمة وفقاً لأحكام اتفاقية إنشاء مجموعة الساحل الخمس، لا سيّما مادتها العشرين، وهو ما يعني حل المجموعة.
باستثناء موريتانيا، تعتبر الدول الأخرى دولا غير ساحلية، فحسب المادة 124 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بسنة 1982، تعني “الدولة الساحلية” كل دولة ليس لها ساحل بحري، ويطلق عليها أيضا الدول الحبيسة أو الدول المغلقة التي تُعاني من عدم وجود أي منفذ مائي بالقرب منها، فهي مُحاطة باليابس من كل الجهات تقريبًا، كما تدعى بالدول المُختنقة؛ لذلك نصت المادة 125 من نفس الاتفاقية على انه يكون للدول غير الساحلية حق المرور الى البحر ومنه لغرض ممارسة الحقوق المنصوص في هذه الاتفاقية بما فيها تلك المتعلقة بحرية أعالي البحار وبالتراث المشترك للإنسانية وتحقيقا لهذه الغاية، تتمتع الدول غير الساحلية بحرية المرور العابر عبر دول المرور بكافة وسائل النقل؛ وتضيف أنه يتم الاتفاق على أحكام وصور ممارسة حرية المرور العابر بين الدول غير الساحلية ودول المرور العابر المعنية عن طريق اتفاقيات ثنائية أو إقليمية أو دون إقليمية.
تختزن أراضي دول الساحل موارد طبيعية تتنوع ما بين موارد طاقية وأخرى معدنية، إذ تحتل احتياطاتها من اليورانيوم المرتبة الأولى عالميا، واحتياطات نفطية وغازية مهمة، إضافة الى الذهب والليثيوم والفوسفاط والحديد والنحاس والماس، لكن هذه الخيرات تعرضت للنهب ابان الفترة الاستعمارية، واستمر الاستغلال الفرنسي حتى بعد الحصول على الاستقلال، وبالموازاة مع تراجع النفوذ الفرنسي تشهد منطقة الساحل تمدد النفوذ الصيني والروسي مما اثار مخاوف واشمطن والغرب لتدخل بذلك المنطقة حلبة الصراع الدولي.
من جهتها ستعمل بعض الأطراف الإقليمية على استثمار الجغرافية السياسية لمنطقة الساحل لصالحها، يتعلق الأمر بكل من المغرب والجزائر خاصة بعد أن بدد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والرباط آمال التكامل الإقليمي في إطار اتحاد المغرب العربي، وعودة الحرب بين الطرفين على اكثر من مستوى، عسكرية بعد استئناف جبهة البوليساريو عملياتها العسكرية ضد القوات المغربية؛ ديبلوماسية في المنظمات الدولية خصوصا الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي وفي علاقات الاستقطاب بالقوى العظمى ، ثم اقتصادية من مظاهرها التنافس على الحضور بمنطقة الساحل. اطلق المغرب مشروع الطريق السريع تيزنيت الداخلة، والذي يقترب من مراحله الأخيرة، ويروم هيكلة الطريق الوطنية رقم 1 على طول 1055 كيلومترا، واعتبره مشروعا هيكليا كبيرا بإمكانه تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية بين المغرب وعمقه الإفريقي على نحو متزايد. تُسرع الجزائر الخطى لتجسيد إنجاز مشروع تندوف – أزويرات عاصمة ولاية تيرس زمور في موريتانيا على مسار يمتد على 773 كلم، الذي تعكف الجزائر على إعداده لتعزيز المبادلات التجارية نحو موريتانيا ودول غرب إفريقيا، كما عملت على إعادة بعث مشروع ” طريق الوحدة الافريقية ” على طول 5000 كلم يربط بين ستة بلدان افريقية (الجزائر،تونس، مالي، النيجر، تشاد، نيجريا) ، تراهن الجزائر من خلاله على مضاعفة المبادلات التجارية براً وتخفيض تكاليف النقل، كما يتوقع أن يفتح آفاقاً جديدة لكل من تشاد ومالي والنيجر لولوج الموانئ الجزائرية بإمكانات كبيرة، بخاصة مع التشغيل القريب لميناء الحمدانية في الجزائر.
من جهته شرع المغرب في تشييد ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيتم الإنتهاء من إنجازه في متم سنة 2028 معتبرا انه يجسد التزام المغرب الراسخ تجاه عمقه الإفريقي، وانخراطه القوي في الجهود الرامية إلى تعزيز أواصر التعاون والشراكة مع أشقائه في القارة السمراء؛ وعلاقة بالموضوع اقترح المغرب مبادرة تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي من خلال وضع البنيات التحتية، الطرقية والمينائية والسكك الحديدية المغربية رهن إشارة دول الساحل، لتعزيز مشاركتها في التجارة الدولية، وهو ما تفاعلت معه بالإيجاب كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، وانعقد اجتماع وزاري للتنسيق حيث أعرب الوزراء عن انخراط بلدانهم في هذه المبادرة، ذات البعدين الإقليمي والدولي؛ واتفقوا على إنشاء فريق عمل وطني في كل دولة لإعداد واقتراح سبل تفعيل هذه المبادرة. لكن السؤال الذي فرض نفسه هودوافع غياب موريتانيا عن ذلك الاجتماع باعتبارها همزة الوصل بين المغرب ودول الساحل، ومن دون انخراطها لايمكن ان يكتب النجاح للمبادرة، هل يمكن يرجع الامر الى موقف سيادي لموريتانيا له علاقة بانسحاب بعض الدول من مجموعة الساحل التي تحتضن نواكشوط مقرها، ام بالضغوط والاغراءات الجزائرية لثنيها عن المشاركة في المبادرة خاصة ان الاعلام الرسمي الجزائري أشاد بالموقف الموريتاني الرافض للدعوة المغربية بحضور الاجتماع التنسيقي، بل اعتبر المشروع ظاهرياً مهماً لدول الساحل، إلا أنّ باطنه يؤكد المؤامرة التي تحاك ضد الجزائر من أجل إفساد علاقتها بالدول الإفريقية، ويتزامن هذا التحرك مع التوتر في العلاقات المالية الجزائرية؛ ثمة نقطة أخرى تذكي الصراع تتمثل في وجود ميناء الداخلة في اقصى الصحراء الغربية المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو الحليف الموضوعي للجزائر، هذه الأخيرة تعتبر ذلك أيضا اعترافا من دول الساحل بسيادة المغرب على الصحراء، موقف البوليساريو عبر عنه المكتب الدائم للأمانة الوطنية من خلال الحديث عن سياسة الرباط المتمثلة في شراء الذمم وبيع الأوهام عبر مسعاه تجاه بعض الدول فى المحيط الإقليمي و ذلك في تناقض تام مع منطق الجغرافيا و التاريخ، كما ثمن العلاقات مع موريتانيا.
يبدو ان منطقة الساحل اصبت مجالا للصراع الجيوسياسي بين القوى الدولية بحكم مواردها الطبيعية، وللتنافس الإقليمي بسبب موقعها الجغرافي، فاغلب دول الساحل غير الساحلية تعرف تحولات غير مسبوقة سمتها الأساسية التحرر من التبعية الاستعمارية، فمن يستطيع تقديم أحسن العروض إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!