مقالات سياسية

ذكريات من الماضي العراقي القريب (10)

الكاتب: عبدالله النوفلي
ذكريات من الماضي العراقي القريب (10)
إن قلمي ليرتجف ما بين أصابعي وليس أحيانا وإنما غالبا وأنا أعصر فكري لأتذكر أمورا في غاية الألم عشتها بنفسي واطلعت على تفاصيلها شخصيا وأحاول اليوم ترتيبها كي يطلع غيري عليها ونمسك برأس الخيط بغية أن نعمل سوية مع المخلصين العراقيين لصون بلدنا وحمايته من تكرار تلك المآسي. فالعراق بحاجة إلى حركة تُغير كل شيء وتحول حالة السراب لديمقراطية اليوم إلى ديمقراطية حقيقية، ومن حالة تبديد ثرواته إلى استثمارها وتقوية البنى التحيتية كي تأتي الأجيال القادمة وتجد أرضا صلبة تستند عليها، تغييرا من تقتيل لأبناء العراق إلى صون دمائهم وتحصين أبدانهم ضد كل أنواع الألم، فنحن بحاجة للجميع شيبا وشبابا، طلابا وفلاحين، عمالا ومهندسن، أطباءا ومحامين، الجميع يجب أن يعملوا نحو التغيير، كي تصب كفاءاتهم باتجاه واحد هو أعمار العراق ورفعته بين الأمم.
فقد طال صبرنا ولا أريد لأخوتي العراقيين التعود للحال السيء بل أريد أن تكون تلك الحالات أمرا طارئا يزول كي تنجلي شمس ساطعة تطرد خفافيش الظلام وتجعلهم يعودون إلى اوكارهم خائفين هلعين آملين عودة الأمن والنظام لبلدي وأن يعيش أبناء أغنى بلد في العالم كما يجب وتعود بغداد إلى تسميتها السابقة؛ بغداد دار السلام، وينتهي الرعب الذي أدخلناه لقلوب شعوب كثيرة وخصوصا عند سماعهم باسم بلدنا كونهم يتذكرون كل القصص والأفلام التي سجلتها كامرات عديدة منها الصحيح ومنها المزيف والمفبرك، فقد مررتُ بذات التجربة قبل أكثر من عقدين من الزمان وأنا كنت حينها دارسا في أحد البلدان البعيدة عندما لاحظ فريق تلفزيوني كان موجودا حيث كنت بأنني غريب عن بلدهم لأن الملامح بسهولة يتم تمييزها في ذلك البلد وعندما تقربوا مني ولديهم مايكروفون مربوط لاسلكيا بمكبرات الصوت مستفسرين عن أسمي واسم بلدي بلدي؟، وعندما نطقت باسم العراق ابتعدوا فورا عني امتارا عدة خوفا من هذا الاسم المرعب!!!
فمسلسل الرعب استهدف الجميع كما أسلفنا في الحلقة الماضية فلم يسلم : السني .. الشيعي .. الكردي .. العربي .. الكلداني .. السرياني .. الآشوري .. التركماني .. الصابئي ولا الإيزيدي وكل أطياف العراق الآخرين، فقد كانت مغارة العذراء في كنائس العراق تشهد زيارات عدة من جميع أهلنا ومن مختلف أطيافهم كي يتضرعوا لها ويطلبوا منها غاياتهم وقلوبهم يملأها الإيمان بأن سيدة نساء العالمين ستستجيب لهم ويعودون وقلوبهم مطمئنة ويستبشرون خيرا وغالبا ما كنا نسمع القصص التي تتكلم عن نيل المراد بعد تلك الزيارة والكثير كان يتكلم بح*ما*س عن أمثال تلك القصص، وكنا نتحدث مع أصدقائنا عن سبب ذلك وكان هؤلاء يشرحون لي عن مكانة العذراء في الإسلام وكيف أن القرآن الكريم قد أفرد سورة باسمها وهي الوحيدة باسم امرأة فيه (سورة مريم) وقد لا تجد مكانا يضاهيه لأية امرأة أخرى غيرها كون الاسلام أعتبرها خير نساء العالمين وأحسن أربع نساء الجنة وهناك الكثير في هذا المجال لا مجال لسرده كونه ليس في صلب موضوعنا، وهناك الكثير من المراجع يمكننا بسهولة الرجوع إليها وخصوصا في زمن العولمة الذي نحن فيه.
فتاريخ العراق يشهد بأن التآخي كان عنوان لعيش مشترك ما بين المسيحية والإسلام فهم قاتلوا الغزاة بصورة مشتركة وبنوا الحضارة معا ولم يسجل التاريخ واقعة واحدة اضطهد مسلموا العراق مسيحييه إلا في حالات كان الأجنبي طرفا فيها، ووجدنا في التاريخ أن خليفة المسلمين كان يحرص لحضور احتفالات النصارى وخاصة في عيد الشعانين التي كانت تجرى في البيع والأديرة أي أنه كان يشاركهم في الأفراح والمسرات تماما كما كان يواسيهم في الأحزان التي كانت تلم بهم. وكان المسيحيون أفراد كثيرين في جيش صلاح الدين الأيوبي عندما قاتل الغزوات الأفرنجية التي أخذت اسم (الحروب الصليبية) مدافعين بذلك عن بلدهم ووطنهم أمام غزو المعتدين حيث معا استطاعوا قهر الأعداء وتلقينهم درسا لن ينسوه هم وأحفادهم مدى التاريخ.
واليوم نجد المسيحيين في العراق مع أخوتهم يقفون معا لصون العراق وضد الاحتلال أيضا رغم أن هناك نفرا يحسبهم إلى جانب المحتل كونهم وحسب اعتقاد البعض يشاركونه بذات الديانة؛ هذا الاعتقاد الخاطيء الذي دفع المسيحيون الكثير من المال والضحايا والاضطهاد ثمنا له، لأن المحتل وإن كان أمريكيا فإن أمريكا ليس في دستور بلدها أن: ديانة الولايات المتحدة هو الدين المسيحي، كما هو الحال في معظم الدول الإسلامية حيث نجد فقرة ثابتة في معظم دساتير هذه الدول بأن الدين الرسمي للدولة هو الاسلام!!! وجميع الدول الغربية علمانية ونجد ما بين أفراد جيوشها من الأديان المختلفة؛ فما بين أفراد قوات الاحتلال كان أيضا الجنود المسلمين ومع هذا الجيش كان مرافقين من أئمة وخطباء كي يأموا الصلاة بالجنود المسلمين على عادة هذا الجيش أينما يذهب فإنه يأخذ معه رجال دين حسب الأديان التي يدين بها أفراده.
وعانى مؤمنوا المحبة كثيرا من هذه المحبة التي يأمرهم بها المسيح له المجد ويشهد جميع المنصفين العراقيين من المسلمين بأن المسيحي يمكن ان تأمن جانبه ولا يلحق أذى بجاره مطلقا وكم من محلة معظم سكانها كان مسيحيون كنا نجد من أخوتنا المسلمين الذين يبحثون ويلحون بالشراء فيها لطيب أهلها وأخلاصهم و و و. ولكننا لا يمكننا بهذا تبرئة أعداء الشعب العراقي والعربي والمسلم من بث هذه الثقافة  اليوم كي يُحارب المسيحيون من قبل المسلمين ويتم استنزاف الطرفين بغية أن تنتصر الصهيونية وتبقى هي القوية في الساحة.
وتم أجبار المسيحيين في مناطق كثيرة على خيارين لا ثالث لهما: إما الجزية أو الاسلام، وفي حالة الرفض هناك خيارين، إما الق*ت*ل أو ترك المنازل بما فيها وكانت الدورة المنطقة الأشد في تطبيقها هذا من بعض الأنفار الذين كان يطلق عليهم  (الأفغانيون العرب)، وهذه المنطقة كانت معقلا مسيحيا ففيها سوقا لازال إلى اليوم اسمه (سوق الآثوريين) وحيا بذات الاسم ونحن متيقنين بأن الاسلام براء مما حدث لأن المسلمين يتحدثون عن مقولة (لا أكراه في الدين) وبأن : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون … عندما يرد ذكر النصارى في آية من آيات القرآن الكريم، وقول نبي الإسلام: كل من آذى ذميا فقد آذاني … فهذه وغيرها من أعمال الق*ت*ل والخطف والابتزاز دفعت بالآلاف إلى الهجرة باتجاهات مختلفة منها داخلية ومنها خارجية فبسهولة اليوم تجد المسيحيين (السورايى) في بلدان كثيرة ويتحدثون بلغتهم (السورث) وتكونت مناطق في بلدان المهجر منهم تحديدا ليس في فيرفيلد بسدني باستراليا وحدها بل هناك في كاليفورنيا بالولايات المتحدة وفي سودرتاليا بالسويد وليون بفرنسا وفي ألمانيا أو هولندا وبلدان كثيرة غيرها.
إن العراق ينزف من أبنائه الكثير وهو خسارة للعراق حتما قبل أن يكون خسارة لأهله من المسيحيين، فقد تعرض بلدنا للنهب من قوى مخابراتية عديدة وها هي الأخبار تتحدث عن وجود (1000) قطعة من الآثار العراقية معروضة في متحف بتل أبيب باس*رائ*يل، حيث سمعنا من قبل كما سمع كل العالم بأن قوات الاحتلال الأمريكي نقلت الأرشيف اليهودي من العراق إلى أمريكا بغية صيانته وعن هذا الأمر كشفت تقارير معلوماتية عن انتقال هذا الارشيف إلى إس*رائي*ل كما كشف وزير السياحة والآثار (لواء سمسم) حيث قامت هذه الوزارة بإيقاف عمل بعثات التنقيب الأمريكية في العراق وأجراءات أخرى ريثما يقدم الأمريكان جردا عما تم تهريبه من قبلهم حيث للعراق معلومات تفيد بوجود أكثر من (80) ألف قطعة أثرية قد تم تهريبها إلى أمريكا وقد اعترف الجانب الأمريكي حسب قول الوزير بعشرة آلاف منها لديهم.
إن متحف الأرض بإس*رائي*ل يشهد اليوم وجود هذه الآثار العراقية وهذه دولة واحدة من دول عديدة استولت متاحفها على الكنوز العراقية والكلام دائما صادر من وزير في الحكومة العراقية وعبر جريدة الصباح شبه الرسمية، وإذا تحدثنا عن تنقيبات في مناطق أخرى في العراق ومنها بعيدة عن أنظار الحكومة رغم أن الدستور يعتبر الأرث الوطني هو أرث مركزي (أي تحت تصرف الحكومة المركزية) فهناك مناطق أثرية كانت تسيطر عليها قوات أجنبية أو تقيم فيها معسكرات وقواعد لها كما في أور .. الناصرية أو كبابل في الحلة ومواقع كهذه تُسهل لهم تهريب الآثار من خلال وجودهم فيها ولا أحد يعلم ماذا يفعلون هناك!!!
وعن ذات الموضوع ففي منطقة قريبة من بغداد يوجد موقع أثري مسيحي يعود للمائة الأولى للمسيح هو موقع (كنيسة كوخى) الذي بناه أحد التلاميذ الاثنين والسبعين الذين جمعهم ربنا له المجد في حياته الأرضية وتلميذ هذا وهما (مار أدي ومار ماري) ومن شيدها توفي قبل انقضاء المائة الأولى للمسيح فلنا تصور كم هذا الأثر مهما وكونه أصبح ليس مسيحيا فحسب بل عراقيا وأرثا وطنيا وقد زرت يوما هذه الأطلال وتبركت بها وأنا أتأمل أولئك الرجال الذين حملوا راية الإيمان نحو الشرق دون عوائق تمنعهم من الشهادة لإيمانهم حتى الموت لم يقف عائقا أمامهم إزاء هذا، وتركوا لنا اسما خالدا لكن لا أحد يلتفت إليه ويعيده كي يكون موضعا يزوره المؤمنون قبل السياح ويكون موقعا عراقيا يتم الاهتمام به بعناية لكنه اليوم أرض جرداء وإن وُضع سياج له في الماضي لكن اليوم يعاني الموقع من أهمال شديد والكنيسة التي أخذت اسما هو كنيسة ساليق وقطيسفون هي أرض جرداء تبكي وتستنجد بمن يعيد الحياة لها!!! بعد موجات تترية وهمجية أدت إلى تدميرها عدد من المرات ومنها في سنة 341 ميلادية ابان الاضطهاد الأربعيني.
فهذا الموقع وغيره ينتظر من يمد يديه إليه كي تتم صيانته وأظهاره للعالم ويبرز دور العراق وابنائه الغيارى في بناء الحضارة والتاريخ فلا نجد في هذه المواقع أية اهتمام يُذكر فحتى ملوية سامراء هذا الصرح الشامخ يعاني الاهمال ولا تجد فيه أية مستلزمات تفيد السائح وتعرفه وتشرح له شيئا عنها، وإن تحدثنا عن الملوية فالحضر تشكو أيضا لنكتشف بأن العراق قد أَهمل بصورة شبه كلية الجانب السياحي مع وجود وزارة في الحكومة باسم وزارة السياحة والآثار لكن الآثاء تعاني حالها حال الشعب، فقط السياحة الدينية هي التي تم الالتفات إليها وتشهد ازدهارا كبيرا وخصوصا بالمدن المقدسة كالنجف وكربلاء والكاظمية، نأمل ونتمنى أن تكون السياحة في العراق موردا جيدا يدعم ميزانية هذا البلد بعد النفط لأنه مؤهل لأخذ مكانة لائقة كون العراق معروف بأنه موطن الحضارات ومنه انطلق أبراهيم أبو الأنبياء وأعلن بدأ المخطط الإلهي لإنقاذ البشر وأرشادهم للسير في طريق الهدى والنور.
فكل شيء في بلدي يعاني من الاهمال وحتى الهواء أصبح ملوثا وغالبا ما يكون الجو مغبرا وبكثافة قوية تؤدي إلى انعدام الرؤية وأصابة المرضى بالربو بحالات حادة من الاختناق فلم يعد هواء بلدي نقيا كما عهدناه عندما كنا صغارا ونذهب لصفوف الدراسة صباحا وفي الشتاء لنجد بأن المياه قد تجمدت في السواقي من شدة البرد وكم شهدت مناطق كثيرة من الوسط والشمال خصوصا سقوط الثلوج التي كانت تجعل من الأرض ترتدي حلة بيضاء، لكن اليوم لم يعد الشتاء شتاءاً في بلدي بالمعنى الذي عشناه ولم تعد بغداد بحاجة للنفط الأبيض للمدافيء لانعدام الحاجة لها فالشتاء أصبح معتدلا فاليوم وخصوصا وسط وجنوب العراق يوجد ربيع قصير وصيف طويل مليء بالغبار والأتربة والشمس الحارقة التي ترتفع فيها درجات الحرارة لأكثر من خمسين درجة على المقياس المتري، فماذا يفعل العراقي بعد اليوم لأن الطبيعة أيضا تقف بالضد منه؟
وهذا وغيره ما سنستمر بالكتابة عنه في الحلقات القادمة
… وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
[email protected]
 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!