مقالات عامة

خطبةُ امرأة فدائيّة

جلس المأمون بن هارون الرشيد سابع خلفاء الدولة العباسية يوماً للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه -وقد همّ بالقيام- امرأة من أهل الريف عليها هيئة السفر، ثيابها مغبرّة معفّرة رثّة، في وجهها سمات الشّجاعة والاقدام، وفي كفيها تظهر عروق الكدح والعمل، وقفت بين يديه، عالية الهمّة، منتصبة القامة، صلبة العود، شامخة الأنف. فصيحة اللسان. غير هيّابة ولا مُتخاذلة، قالت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين. نظر المأمون إلى نديمه وصاحب مجلسه يحيى بن أكثم، فقال لها يحيى: وعليك السّلام يا أمة الله؛ تكلمي بحاجتك، فقالت:

خطبةُ امرأة فدائيّة

يا خيرَ مُنتصَفِ

يُهدى لهُ الرشدُ

ويا إماماً به قد أشرقَ البلدُ

تشكو إليك

عَميدَ القوم أرملة

عُدِي عليها فلم يترك لها سَبَدُ

وابتزّ مني

ضياعي بعد مَنعتها

ظُلماً وغرّق مني الأهلُ والولدُ

سَبَد في البيت: ماله سَبَدٌ ولا لَبَدٌ أي قليلٌ ولا كثيرٌ. والسبَدُ من الشَّعر واللَّبَدُ من الصُّوف. فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:

في دون ما قلت

زال الصبر والجلدُ

عني وأُقرِح مني القلبُ والكبدُ

هذا أذان

صلاة العصر فانصرفي

وأحضري الخصم في اليوم الذي أعدُ

فالمجلس السبت

إن يُقضى الجلوس لنا

ونُنصفك منه وإلا المجلس الأحدُ

فلما كان يوم الأحد جلس المأمون مجلسه ذاك، فكان أول ما تقدم إليه تلك المرأة، فقالت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك السّلام، ثم قال: أين الخصم؟ فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين، وأومأت إلى العباس ابنه، فقال: يا أحمد بن أبي خالد-وزير المأمون- خذ بيدي العباس فأجلسه معها مجلس الخصوم، فجعل كلامها يعلو كلام العباس، فقال لها الوزير أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وأمر بالكتابة إلى عامله في ديارها أن يحسن معاملتها، وامر لها بنفقة من بيت مال المسلمين.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!