الحوار الهاديء

لتكن هناك كلمة واحدة


م. زهير الشاعر

إن صاحب القلم الحر هو صاحب موقف، لا يمكنه بأن يكون مثل ذاك الجاهل الذي يحبس نفسه ويريد أن يحبس غيره في سياق أحقاده وأوهامه، وبدلاً من أن يتعلم من مدرسة الحياة بأن هناك فسحة من التسامح والأمل وتقاسم الهم الوطني ، يصبح عوضاً عن ذلك بتصرفاته الحمقاء كالعصفور المتطوع بدون عناء تجنيد ولا ثمن مقابل ذلك .

أيضاً لا يمكن لصاحب القلم الحر أن يكون مثل ذاك اللاجئ صاحب القلم الذي إذا لم تتواكب الأمور مع مصالحه وهفواته، يطلق العنان لقلمه الذميم وقتما شاء وكيفما شاء بدون ضوابط أمانة الكلمة، ليصف من كان يمتدحه بالأمس وهو ولي نعمته بأنه اليوم أصبح صاحب بطن رميم .

لذلك عندما تلقيت بالأمس عدة رسائل تشكك في تصريحات وزير الخارجية الفلسطيني د. رياض المالكي التي أدلى بها خلال برنامج حال السياسة الذي بثته قناة فلسطين الفضائية ، وذلك حول مؤتمر باريس للسلام ، والذي كان يتحدث فيه عن عدة نقاط منطقية توافقت تماماً مع الفكرة التي طرحتها حول هذا الموضوع من قبل ، وذلك حينما قال “إن مجرد انعقاد مؤتمر دولي للسلام بحضور 70 دولة و5 منظمات دولية وأكثر من 40 وزير خارجية، والتأكيد على قضية حل الدولتين المركزية، وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، والانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، ورسخ وأكد من جديد على مفهوم حل الدولتين، في ظل محاولات “اس*رائ*يل” الهروب من هذا الاستحقاق، واعتباره لم يعد ملزماً لأحد حسب وجهة نظرها ، يعتبر بحد ذاته نجاح للمؤتمر”.

وبالرغم من مبالغته في وصف نجاح المؤتمر، إلا أن هذا ما كنت قد تطرقت إليه تقريباً في مقالي الذي نشر قبل يوم واحد من إنعقاد ذاك المؤتمر وحمل عنوان “مؤتمر باريس الدولي” والذي أشرت فيه إلى أنه ” مما لا شك فيه ، بأن عدم تجاوب إس*رائي*ل للمشاركة في حضور مؤتمر باريس الدولي للسلام الذي سيعقد اليوم في العاصمة الفرنسية باريس قد أفقده قيمته الحقيقية، ولكن لا يمكن إغفال حقيقة أن مجرد إنعقاده بحضور سبعين وفداً دولياً منهم أكثر من أربعين وفدٍ على مستوى وزراء الخارجية، بعد أن طال إنتظاره، وفي ظل التحديات التي تواجه الساحة الدولية ، بأنه يمثل إنجازاً معنوياً لا يمكن التقليل من شأنه حتى أكون منصفاً “.

من هذا المنطلق أود التنويه إلى أن من يظن أن صاحب القلم الحر يمكنه أن يطلق العنان لقلم ليصبح عشوائياً ، وقد يدخل طريق التشكيك بجهود أحد لمجرد اللهو على الفاضي والمليان ويسير في طريق بلا عنوان هو مخطئ!، حيث أنه وبالرغم من وجهة نظري التي تحدثت عنها في كثير من المقالات حول أسلوب وزير الخارجية الفلسطيني د. رياض المالكي، إلا أن ذلك لا يمكن أن يسمح لي بأن أتساهل مع معطيات غير مقتنع بها، والعمل على التشكيك بمجهوداته التي يقوم بها، ولا يمكن لي أن أتعاطى مع مواقفه المهنية من باب التشهير والتقليل من شأنها وكأنها فارغة المضمون دائماً .

حيث أنني أؤمن بأن الجهود التي تبذل مهما كانت صغيرة ، فهناك دائماً نافذة من واجبي ككاتب أصبحت أحظى بقدرٍ معقول من المصداقية، أن أعطيها حقها سواء إتفقت أو إختلفت معها ، وذلك إيماناً مني بأن الإختلاف في وجهات النظر هي من أجل تصويب المسار وليس من أجل المتاجرة أو الإنتقام!.

كما أنني بِتُ على قناعة بعد متابعتي الدقيقة للمشهد الفلسطيني وتداخلاته ، بأن منصب وزير الخارجية هو منصب تنفيذي لسياسة القيادة التي تملي أجندتها على من يقوم بتنفيذها سواء إتفق معها أو لم يتفق ، وبالتالي عندما كنت أطرح وجهة نظري حول ما يتعلق بأي موقف سياسي أو مهني يصدر عن وزارة الخارجية ا*لفلس*طينية ، وبالرغم من أنه كان يحظى بمصداقية كبيرة ونابع من غيرة وطنية يملؤها الح*ما*س والإندفاع، إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن يكون هذا مبرراً لتغيير بوصلة العمل المهني والإلتزام بأمانة الكلمة، حتى لا يظن البعض بأن هناك فرصة لإستغلال الكلمة في غير سياقها ، أو أن أفقد إرادتي وكلمتي الحرة ، وأصبح أسيراً لأمور شخصية أو أهواء تتوافق مع رغبات أخرين، وهذه أمور لا أحبذها بطبعي ولا اقبل بها ولم اقبل بها من قبل!، حتى لا يظن البعض بأنهم قادرين على تمريرها من خلالي.

لذلك فإنني أرى أنه في ظل التحديات القائمة ومتابعتي للأمور المتعلقة بالشأن الفلسطيني عن قرب، بأن مؤتمر باريس وإن كان قد خرج بمناشدات فقط أكثر منه بقرارات نافذة، ولم يرتقي لمستوى التوقعات والآمال التي بنيت عليه، لا بل كان قد رآه البعض من المراقبين ، بأنه لم يكن يمثل أكثر من حفل وداع للذين سيغادرون الحلبة السياسية في بلادهم كالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير خارجيته جان مارك آيرولت ، ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري .

ولكن بالرغم من ذلك ، لا يمكن إغفال حقيقة الإتفاق مع وجهة نظر وزير الخارجية الفلسطيني التي أدلى بها خلال حواره المذكور ، التي تحمل في جوهرها معنى واحد وهو بأن هذا المؤتمر قد قذف بحجر في المياه الراكدة ، وسلط الضوء من جديد على القضية ا*لفلس*طينية والتحديات التي تواجهها، خاصة أنه جاء بعد قرار مجلس الأمن الذي أدان الإستيطان رقم 2334 ، وهذا في تقديري هو السبب الذي دفع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لتعيين مبعوث خاص له لعملية السلام في الشرق الأوسط في دلالة واضحة على أنها ستحظى بإهتمام بالغ من إدارته في المرحلة المقبلة.

كما أنه جاء بالتزامن مع تحذيرات دولية من مخاطر التحديات القادمة ، كان أخرها التحذير الذي صدر بالأمس من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ، الذي حذر من خطر اليأس من العملية السلمية وعدم وجود بدائل لحل الدولتين، مؤكداً على أهمية القدس للمسلمين وانعكاسات ما يمس بالوضع الحالي على الأمن والسلام في المنطقة.

وهذا جاء في نفس سياق تحذير أخر من الرئيس الأمريكي منتهي الولاية باراك أوباما الذي لخصه في كلمات مسؤولة قال فيها ” عندما يتم اتخاذ خطوات أحادية مفاجئة تتعلق ببعض القضايا الجوهرية والحساسيات المتعلقة بكلا الجانبين الفلسطيني والإ*سر*ائي*لي، فإن ذلك قد يفجر الوضع في المنطقة وبذلك يضع إس*رائي*ل في خطر ويخلق وضع سيئ بالنسبة للفلسطينين كما أنه من الممكن أن يؤثر سلباً على المصالح الأمريكية”.

من هنا فإنني أقدر حالة القلق التي تجتاح الجانب الفلسطيني والتي تدفعه للتمسك بأي جهود تعطيه بارقة أمل في المستقبل ، حيث أن عملية السلام برمتها باتت تواجه مخاطر جمى، وبالتالي لا يمكن إغفال حقيقة أن هذا المؤتمر خلق حراكاً أخر يتعلق بلقاء ثماني فصائل فلسطينية في موسكو بدعوة من معهد الدراسات الشرقية بالأكاديمية الروسية للعلوم، لإجتماع غير رسمي ، والذي خرج بتوصيات تنص على ضرورة تبني إستراتيجية فلسطينية مهمة وواقعية تتعلق بالتطورات التي حصلت مؤخراً ومنها نتائج مؤتمر باريس للسلام، وقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي أدان الإستيطان في الأراضي المحتلة، وإنتخاب الرئيس دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية والخشية من تنفيذ توجهاته بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، مما يعني أن الساحة ا*لفلس*طينية بدأت تتحفز بالفعل بشكل مختلف عن السابق ، ليكون هناك وحدة وطنية ، وذلك من أجل مواجهة التحديات القادمة بمسؤولية، ومن المفترض أن يكون ذلك سبباً إيجابياً وجيهاً وعملاً حيوياً في إزالة مسببات الخلاف الوطني ، وأن يتم العمل بشعار واحد وكلمة واحدة تنص على أن هناك ضرورة لمشاركة الجميع في القرار السياسي وهذا هو حق مكفول للجميع بدون إقصاءٍ لأحد ، حيث لم يعد هناك مجال للمهاترات الجانبية التي تهدر الطاقات وتعمق الخلافات وتضيع الوطن.

كاتب ومحلل سياسي

فلسطين

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!