أمي لم تَمُتْ بسبب المرض بل ساهم أهلها بق*ت*لها

الكاتب: جلال برنو
كانت ولادتها في تلك البلدة العريقة الجاثمة على سفح جبل القوش الأشم عام 1939 وهي البنت الكبرى للشماس صادق ياقو برنو والمرحومة أغاته شمعون بولاث ، في بيت متواضع مشيّد من حجارة وجص  مجاور لجدران كنيسة مار كَوركَيس ذات الحجارة الكبيرة والسميكة ، الا أن كبر وسمك تلك الحجارة لم يكن يمنع من أن تنساب تلك التراتيل والترانيم الى آذان العذارى وساكني تلك البيوت العتيقة المحيطة بالكنيسة والتي تُطل على ساحة مدرسة وضريح مار ميخا النوهدري .كان لذلك تأثيراً كبيراً وسبباً لتعلق الطفلة الصغيرة صبيحة بالكنيسة التي لم تتغيب من الذهاب اليها يومياً حتى في أيام مرضها .كانت في الخامسة عشر من عمرها تلعب وتلهو مع بنات المحلة في ساحة مار ميخا حين تقدم اهل والدي سليمان حنا برنو لخطبتهاتزوجت وأنجبت 5 بنات و6 بنين ، قضى أحدهم غرقاً في نهير بندوايا وهو في عمر الزهور قبل أكثر من 4 عقود    مارست المرحومة أعمال البيت واعمال الفلاحة بجانب التطريز والخياطة وتلبيس الدمى لملابس القوش التراثية حفظت الصلوات والأشعار والأهازيج التي كانت يتغنى بها الشباب والشابات في الأعراس وكذلك تلك التي كانت تُتلى في المناسبات الحزينة .مرت الأيام وتوالت السنون ، تزوجت احدى أخواتها من شقيق زوجها وبسبب قوة القرابة سكنا نحن وعائلة عمي فى بيت واحد وتقاسمنا الخبز والملح دون أن يكون لنا حساب منفصل بل مشترك لسنين عديدة وتملكنا البيت الذي عاشت فيهِ الى يوم رحيلها يوم الأحد الموافق 3 كانون الثاني 2016 و بعد ارضاء أعمامي الآخرين بعد أن نالوا حصتهم من قيمة البيت ، الى أن سافر عمي وعائلتهُ الى الولايات المتحدة في مطلع الثمانينيات حيث كانت العقارات وخاصة البيوت رخيصة جداً الى يوم القضاء على نظام حكم البعث ، وبعد أن ارتفعت أسعار الدور في كل مكان من أرض العراق قدم عمي المقيم في الولايات المتحدة لمدة تزيد عن أربعة عقود الى القوش ليتحايل على أمي البسيطة المحبة فيأخذ منها حجة البيت ويذهب الى الدوائر المختصة ويُسجل البيت باسمهِ دون ذكر لأسم والدي … فعل فعلتهُ وهو مقيم في دار أمي التي كانت تخدمهُ طوال مدة زيارتهُ في القوش . وبعد رجوعهِ الى الولايات المتحدة حيث مقر اقامتهُ الدائم أوكلَ أصغر اخوتهِ والمقيم في القوش برفع دعوى لدى قضاء تلكيف وسبب في استقدام الشرطة المحلية لمطالبة أبي و أمي باخلاء البيت الا انهم رفضوا وبدأت سلسلة الاعتداء على الشيخين والدي ووالدتي وانهالت عليهم الشتائم وحتى الضرب من قبل أخيه الموجود في القوش الى هذا اليوم .لقد أبى والدي والمرحومة والدتي  أن يتركوا تلكَ الحجارة التي طالما التصقوا بها وحفروا في أخاديدها كل ذكرياتهم الحلوة و المرة حتى صدقوا بأن تلكَ الحجارة الصماء تنبض بالحياة .أبوا أن يهجروا الجيران وأبناء البلدة الذين يقضون معهم ربما أمتع الاوقات وهم جالسون على تلك الأرصفة الحجرية ( أرزولتا ) بجانب عتبة دارنا المطل على الطريق المؤدي الى دير السيدة حيث يتلقون التحايا و أحياناً دردشة قصيرة مع سالكي الطريق الى الدير وهم يحتسون كؤوس الشاي وأحياناً مع قطعة حلوى أو كليجة عجنتها وخبزتها أنامل أمي .في خضم هذهِ الأحداث لم يسعى  المقربين لدى الجانبين بجدية لحل المشكلة وتليين عناد عمي رغم عروضنا نحن أبناءها بدفع مبالغ تفوق حصتهِ من قيمة البيت . الحقيقة رغم أن المرحومة والدتي الحاصلة على الكارد الأخضر الذي يؤهلها للاقامة الدائمة في الولايات المتحدة منذ الثمانينيات الا أنها ابت أن تترك بيتها في القوش وتُهاجر للبقاء بجانب والدي الذي لا يروق لهُ العيش دون بلدتهِ التي لم يتركها ولو لأيام معدودة طوال حياتهِ وربما كان السبب الأهم قلقها من عواقب تركها للبيت فحتماً سوف يتم استحلالهُ وتخسر كل ذكرياتها و آمالهاعاشت المرحومة والدتي في ذلك البيبت القديم الخَرب وفي تلكَ الغرف الباردة التي تحيط بحديقة صغيرة تتوسطها شجرة سرو تُعانق السماء وتأوي في مئات الطيور التي تصدح كل صباح بسمفونية صاخبة لِتلتقي أمواجها بأمواج ناقوس الكنيسة الذي لم يتوقف ولو ليوم واحد باستثناء تلك الأيام السوداء يوم اجتياح قوى الظلام لقرى سهل نينوى قبل عام ونيفكان يوم السبت 26 كانون الأول 2015 عندما رن التلفون وكانت مكالمة من اخي الساكن في احدى مدن ولاية مشيكَان يُخبرني بان الوالدة في غرفة الانعاش في مستشفى دهوك وأنا الذي كنت عازماً على معايدتها بمناسبة عيد الميلاد في ذلك النهار .لقد علمنا أنها أُصيبت بانفلونزا بسبب البرد وبسبب عيشها في تلك الغرف المفتوحة ساءت صحتها و نُقلت الى غرفة العناية المركزة في مسشفى الطواريء في دهوك الذي رقدت فيهِ لمدة 8 أيام الى أن فارقت الحياة هناك .أنا أعتقد أن المرحومة والدتي تلك الانسانة العطوفة ، والشاعرة ، حيث كانت تقرأ و تكتب بالسورث والعربي  تحفظ عن ظهر قلب خزيناً كبيراً من الصلوات والألحان والتراتيل والأهازيج التراثية الألقوشية التي كانت تتلى في مناسبات الأفراح والأحزان . ونظراً لِوَلعها بالشعر ولِمهاراتها في الخياطة والتطريز وتصميم الأزياء التراثية  التقت بها قناة عشتار الفضائية أكثر من مرة في مواضيع تخص الفلكلور والتراث الألقوشيكان لها حساً مرهفاً ونفساً بسيطة متواضعة تسيل الدموع من عينينها مسرعةً لدى سماعها بفاجعة أحد المعارف ، كانت امرأة اجتماعية تتحدث وتسأل عن أحوال كل مَنْ تعرفهُ ، تُشارك أهل بلدتها في كل المناسبات تواسي الحزين وتفرح لِفرح الآخرين .كانت بحق الشمعة المضيئة في بيتنا وانطفأت دون أن نتوقع انطفاءها بهكذا عجالة .والآن اذا قُدر لي أن ولكل محبيكِ أن نزور القوش الحبيبة كيف سنستمتع بالنسيم القادم من الجبل والمعطر برائحة الأعشاب البرية ، و يا تُرى كيف ستكون رائحة زهور الخطمة والجعفري والنرجس التي كنتِ حريصة على زراعتها كل عام ، وكيف يطيب لنا خبز التنور الحار دون ان يكون معجوناً ً بأناملك المتعبة ومشبعاً بأنفاسكِ المحملة بآلام شقاءكِسوف لُنْ أنسى أنكِ وفي كل مكالمة كنتِ تهملين أخبار صحتكِ وتفضلين أن تقولي لي أنكِ مسرورة جداً بمشاهدة القوش يؤمها مئات الزوار وهم في غاية السعادة متنقلين من  والى الدير و تحدثيني عن أخبار القداديس وال ( دوخرانى ) تذكار القديسين التي كانت تُقام في كنائس القوش وكأن لا اهتمام لكِ بغير تلكَ الأمور .حتماً أو هكذا يوحى لي أن الأصدقاء والجيران وشجرة السرو والزيتون وتلكَ العصافير التي كنتِ تُطعمينها برفقة حفيدتكِ شانيل ذات الربيعين سوف تحزن لِرحيلك، وسوف لن تنساكِ زهور الخطمة والجعفري والنرجس ولا حجارة القوش القديمة ولَسوف تُصاحبكِ جوقة الملائكة وهي تشدو بتلك الألحان السماوية التي طالما عشقتيها وتسير بكِ الى أحضان مَنْ آمنتِ بهِ ووعد بأن مَنْ آمن بهِ سوف لن يموت وهو الذي سوف ينقلهُ من الموت الى الحياة الأبديةكتبت هذا لا فقط لأُرثي أمي فحسب ، انما لِيَرعوي كل قُساة القلوب ولِيعلموا أن البيت الأزلي هو الملكوت الذي وعد بهِ يسوع المسيح له المجد ، أو ذلكَ القبر المظلم لِمَنْ لا يهمهُ أمر يسوع ولَسوف تبقى محبة الناس والسمعة الطيبة أكبر رأسمال وأكبر رصيد ينالهُ الأنسان بعد مغادرتهِ هذهِ الدنيا الفانية .نامي قريرة العين في مقبرة الآباء والأجداد ، تنفسي رائحة ثرى القوش واستريحي بعد رحلة الشقاء الطويل بين تلكَ الحجارة التي طالما كانت تغدو لكِ أجمل قلادة ويكفيني أن تكوني فخراً لي بسبب محبتكِ وحنانكِ سوف أحتفظ بجميع كتبكِ وسوف لن أنساكِ .ابنكِ جلال برنو..