مقالات

لست حيوانا؛ وليد عبدالرحيم

لست حيوانا رواية لوليد عبد الرحيم، تقع على متن 243 صفحة من القطع المتوسط، وهي من اصدارات الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين في رام الله سنة 2021.

جاء عنوان الرواية عتبة مناسبة لولوج النص والبوح باسراره عبر صفحات الرواية ذات الانساق الضبابية كثيرا. فبطل الرواية وساردها ماجد خليل الحلو المولود في مخيم اليرموك على يد القابلة ام محمد والمطهر الصفوري يلتحق بالفدائيين في لبنان، ويخوض معارك الصمود والبطولة على ارضها الى ان تخرج المقاومة من هناك…ثم تحدث مجزرة صبرا وشاتيلا والتي افرد لها الكاتب صفحات وفيرة شدت سطور الرواية بعد ان انفلتت كثيرا …

الرواية اعتمدت على دروب من السيرة الذاتية المتخيلة او الحقيقية لايهم، المهم انها استخدمت دروب السيرة لبناء احداث الرواية التي جاءت محملة بكثير من القفزات والشطحات والتي قد تذهب بالقاريء بعيدا ، حتى انه يجتهد كثيرا للبقاء ضمن اجواء النص…وهذا قد يسجل ضعفا بحق النص او قد يسجل تميزا؟ فاذا اعتبرناه ضعفا فالرواية لا تلتزم بسرد تراتبي، ولا وقائع متوالدة، والاضافات والاسترجاعات فيها كثيرة وثقيلة… اما اذا اعتبرنا هذا الضياع الذي تسببه الفصول الاولى بالرواية متماهيا مع حالة الضياع التي لحقت بالشعب الفلسطيني عقب النكبة، وبالثورة ا*لفلس*طينية عقب هزيمتها وخروجها من بيروت، فقد تكون هذه الالتقاطة والمقاربة ميزة احسن الكاتب التقاطها ليبقي حالة من الانسجام بين النص والواقع وما بين النص وما حصل في حينها، وهذا مايربط القاريء بالنص ويجعله يدخل عوالمه وكأنه يعيش احداثه بنفسه.

والرواية اعتمدت كثيرا على الفانتازيا والغرائبية لبناء حبكة الرواية وتأثيث احداثها، لا سيما في قصة الجد القط ص٢٣٧ حيث يقول:” كان جدي القط بجناحيه الملائكيين قد اتى وهبط طائرا، صار تحتي تماما، فحملني وانطلقنا معا طائرين، وان هي الا ثوان معدودات حتى صرنا فوق سماء بيروت، هبطنا كطائرة مروحية على سطح مشفى غزه في صبرا، قبلني الجد القط وارتفع قليلا ثم صرخ بي قائلا: لا تفقد اعصابك، تحمل ما ستراه، وكن انسانا، لا تكن حيوانا.

على السطح حطمت الباب برفسة واحدة ونزلت الدرج قاصدا داخل البناء. في المستودع الواقع في الطابق السفلي لمشفى غ*ز*ة وضعوا الجثث في اكياس مرقمة وفي عمق المكان رجل في الاربعينيات يجلس خلف طاولة ويدون قوائم الاسماء نقلا عن اوراق اخرى عنده مركونة عند يده اليسرى، اوقفته وسالته بصوت رعدي مختنق الاوصاف هل هناك احد هنا باسم منال باكير؟ ثلعثم الرجل قليلا مدركا حجم ما اعاني وبدا يبحث في الدفتر ذي الغطاء الجلدي البني وهو يردد باعتياد طاريء ويتابع باصبعه: منال.. منال منال .. وكلما ردد اسمها نقص وزني 10 كيلو غرامات حتى توقف ونظر الي وقال: نعم الكيس رقم 2012، فتفتت كليتاي وكبدي كملح اصابه الماء. كانت الاكياس في المستودع كثيرة، قبيلة كاملة من الاكياس وقد لطخها الدم الذي ابى ألاّ يظهر على وجه الكيس….

حملت منال على ظهري كانت عباره عن كيس كبير قماشي يسمع صوت النايل في داخله اثناء الاحتكاكات مجرد كيس برقم اللعين كئيب ومتوحش، وصلت المقبرة مع الواصلين وهم كثر، كان بعض الشبان الذين اتوا من خارج المخيم للمساعدة قد حفروا عشرات القبور تطوعا وجلبوا عروقا خضراء كانوا قد قصوها عن اشجار ارصفة بيروت وهم في طريقهم …
وضعت منال الى جانب احد القبور القديمة لكنني قررت ما يلي: الا ادفنها، قلت سازرعها كشتلة ورد هناك عند السور العظيم.
ظهر الجد القط في السماء مجددا محلقا بجناحيه كان بعيدا جدا، لمحته قرب غيمة نصف سوداء تتحرك قليلا كانها تسير في موكب جنائزي، قلت لنفسي: حسنا ها هو الجد قادم نحوي طائرا كملاك معتاد.
لاحظه الجنود الاس*رائ*يليون فبداوا يطلقون النار عليه، لم يابه لذلك ابدا ولم يصب، مما اذهلهم، لقد راوا بام اعينهم بانه لا يمكن ان يصاب باذى، ولا ان تؤثر في اي طلقة، او اي مجزرة، ففروا مختبئين في داخل المباني المحصنة وهم مرتعبون في انتظار تفسيرات الحاخام .

ظل يتقدم هابطا نحوي حتى وصل لارتفاع متر واحد عن الارض. قال الجد ضعها على جناحي. قلت: كيف يكون ذلك؟ اين ساخذها؟ قال: . قلت: لا …لن ندفنها …

نظر غاضبا الى وجهه محتجا على غبائي، وقال: لا لن تدفن، بل سانقلها هناك، الى ارضنا الابدية حيث انك يوما ما ستلتقيها ايضا…
وضعتها على جناحيه، قال لي غدر الان، ثم طار بها نحو الاعلى، صار الكيس ذو الرقم 2012 يبتعد تدريجيا حتى غاب في عمق السماء” ص ٢٤٠.

لم اقدر على الصعود الى السماء عدت الى مشفى غ*ز*ة سالت عن مكان مق*ت*لها، قيل لي في الغرفة الاولى على يمين الممر، دخلتها، سرد لي الممرض المتطوع القصة كاملة مع بعض تخيلاته، ظل يوما كاملا يقص لي ما حدث مع منال… جلست في تلك البقعة خلف الستارة البيضاء، شاهدت كل شيء حدث، استوعبت المشهد باكمله، بقيت جالسا الايام ثلاث كبوذي يصلي، ثم وقفت بعد ان قررت الخروج نحو الممر، كنت افكر في ان افعل بهم مثلما فعلوا بها…
ظهر الجد من النافذة الزجاجية المحطمة المطلة على الشارع الخلفي وقال لي مؤنبا: لا، لن تفعل، فلست مثلهم…

غضبت… وتوترت.. انفجرت، طارت راسي وانحلت عقدة من دماغي، وبصرخة مدوية صعقت اركان الارض الاربعة، وكتبت على لوح السماء بخط كوفي كبير، قلت: اجل لن افعل مثلهم، فانا لست حيوانا ص٢٤٣.

في تلك الحكايايتين السابقتين تبرز قيمة عنوان الرواية كعتبة ومدخل للنص، كما تبرز الى العيان فكرة الرواية الاساسية التي شغلت ذهن الكاتب وصاغ كل الاحداث لخدمة فكرته الانسانية والسامية والمتصالحة مع ذاتها ومع من حولها [لست حيوانا].

لست حيوانا؛ سيرة شعب قاتل وكافح ونافح بكل ضراوة عن كل ذرة تراب وحفنة كرامة وعن كل حرف وكلمة من تاريخ الاجداد، ورغم كل العسف والبطش في مسيرته الطويلة بقي انسانا بحق، ورفض ان يكون حيوانا…
وبقي يناضل ليحافظ على انسانيته بينما غرق العدو واذنابه في مستنقع الحيونة…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!