أسئلة الفلسفة، رحلتي لفهم الذكاء الاصطناعي من خلال
تحسين الشيخلي
ماذا يقول الفلاسفة عن الذكاء الاصطناعي؟ وما موقفهم من هذا التطور التكنولوجي الهائل الذي يتقاسمون معه عديداً من المفاهيم كالوعي والذكاء والمعرفة والعمل؟ وهل بالإمكان الحديث عن وعي وذكاء خارج الجسد الإنساني الذي قاربه موريس ميرلو-بونتي بوصفه منطلق معرفة العالم، مصححاً بذلك تقليداً فلسفياً طويلاً جعل من الوعي مصدر المعارف؟ وما الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والتربوية والإبيستمولوجية الأساسية التي تطرحها هذه التكنولوجيا التي باتت تشكل اليوم تحدياً معرفياً كبيراً؟ وما تأثيرها في الإنسانية والمجتمع؟
أن السؤال الأساس الذي تطرحه علينا هذه التقنيات يكمن في إعادة التفكير في مكانة الإنسان الواقف اليوم ما بين الآلة والحيوان والإله.
ضمن سلسلة أسئلة الفلسفة التي تناولت فيها داروين ورينيه ديكارت سابقاً لفهم الذكاء الاصطناعي من خلال آراء الفلاسفة والعلماء هو جهد لا يقتصر على تحليل التكنولوجيا، بل يمتد إلى التفكير في ما تعنيه للبشرية ككل، وكيف يمكننا التعايش مع هذه الأنظمة بطرق تحترم إنسانيتنا وتحافظ على القيم الأساسية التي تميزنا ككائنات مفكرة.
رحلتي اليوم لفهم الذكاء الاصطناعي من خلال فلسفة مارتن هايدغر. رحلة تكشف لي عمق العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان، وكيف يؤثر هذا التأثير على الكيفية التي نفهم بها أنفسنا والعالم من حولنا.
في بداية هذه الرحلة، كنت كغيري أنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة مبهرة تسهم في تحسين حياتنا اليومية، بدءًا من التطبيقات البسيطة مثل المساعدات الصوتية وحتى الإنجازات العلمية الكبيرة في مجالات الطب والهندسة. لكن مع مرور الوقت وتزايد انتشار الذكاء الاصطناعي، بدأت أتساءل: هل يمكن أن يكون هذا التطور التقني مجرد أداة، أم أنه يحمل في طياته قوة عميقة تعيد تشكيل كينونتنا كبشر؟
كانت هذه الأسئلة المحورية مدخلي لقراءة أعمال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي لم يشهد عصر الذكاء الاصطناعي، لكنه طرح تساؤلات أساسية حول التكنولوجيا وعلاقتها بالإنسان. في كتابه (السؤال عن التكنولوجيا)، أوضح هايدغر أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات محايدة نستخدمها لتحقيق أهدافنا، بل هي إطار يحكم كيفية رؤيتنا للعالم وتعاملنا معه. التكنولوجيا، وفقاً لهايدغر، تعيد تشكيل الطريقة التي ندرك بها أنفسنا، وتؤثر في علاقتنا بالطبيعة والوجود.
ما أثار دهشتي هو ارتباط هذه الفكرة بالذكاء الاصطناعي. فمع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، لم نعد نستخدم التكنولوجيا فحسب، بل أصبحت التكنولوجيا تتدخل في كيفية اتخاذ قراراتنا، بل وحتى في تعريفنا لماهية الذكاء والإبداع. هل يمكن أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه امتداد للطريقة التي يسعى بها الإنسان إلى السيطرة على الطبيعة؟ أم أنه يمثل بداية لعصر جديد يتم فيه التفاعل بين الإنسان والآلة بشكل متداخل لدرجة يصعب فيها الفصل بين الاثنين؟
أدركت أن سؤال هايدغر الأساسي حول التكنولوجيا (ليس ما يمكن للتكنولوجيا أن تفعله، بل كيف تعيد تشكيل إنسانيتنا)، ينطبق بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي. نحن نعيش في عصر تتداخل فيه القرارات البشرية والقرارات الآلية، حيث تعتمد مؤسساتنا على خوارزميات لتحليل البيانات، وتوجيه السياسات، وحتى خلق الفن. لقد أصبحنا في كثير من الأحيان نتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمرآة تعكس طموحاتنا وأحياناً مخاوفنا. لكن إلى أي مدى يمكن لهذه المرآة أن تعيد تعريف من نحن؟
بدأت أفكر في التطبيقات اليومية للذكاء الاصطناعي، مثل المساعدات الشخصية والخوارزميات التي تنظم حياتنا الرقمية، من خلال نظرة هايدغر للتكنولوجيا كـ (تحدي). هذا التحدي لا يكمن فقط في كيفية استخدامها، بل في كيفية تأثيرها على إدراكنا للزمن والمكان والعلاقات. على سبيل المثال، حينما نستعين بالذكاء الاصطناعي لتبسيط قراراتنا اليومية، هل نفقد جزءاً من إحساسنا بالمسؤولية والاختيار؟ وهل نحن في خطر أن نصبح أدوات في يد التكنولوجيا بدلاً من أن تكون التكنولوجيا أدوات في أيدينا؟
في عمق هذه التأملات، وجدت أن هناك حاجة لفهم جديد للتكنولوجيا، ليس كقوة خارجية تهدد إنسانيتنا، بل كجزء من تطورنا كبشر. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية متقدمة، بل هو وسيلة جديدة نفكر بها ونعيش من خلالها. ومع ذلك، يحمل هذا التغيير مخاطر حقيقية إذا لم نكن واعين للطريقة التي يؤثر بها على قيمنا وأولوياتنا.
تدفعني فلسفة هايدغر إلى التساؤل عما إذا كنا بحاجة إلى إعادة النظر في علاقتنا بالتكنولوجيا. هل يمكننا أن نطور علاقة أكثر وعياً، حيث نحتفظ بدورنا كصانعين ومبتكرين دون أن نفقد قدرتنا على التفكير النقدي؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيقودنا إلى عصر يتم فيه تهميش الفلسفة والتأمل لصالح الكفاءة والسرعة؟
ما يجعل هذه الرحلة فريدة هو أن الإجابات ليست واضحة. الذكاء الاصطناعي هو مرآة تعكس تعقيدنا كبشر، وهايدغر يقدم لنا عدسة لفهم هذا التعقيد. من خلال تساؤلاته حول التكنولوجيا، يمكننا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالذكاء الاصطناعي، ليس كأداة فقط، بل كعامل يعيد تشكيل الطريقة التي نفهم بها العالم. هذه الرحلة ليست فقط عن التكنولوجيا، بل عن الإنسان وما يعنيه أن تكون بشرياً في عصر الذكاء الاصطناعي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.