أخطاء القضاء… في تطبيق القانون وأنتهاك الدستور ح1
النظرية العامة في القضاء كوظيفة تختلف عنها كسلطة، فالوظيفة هنا محكومة عادة بمفهوم الواجب وخضوعها لمبدأ الرقابة والمسائلة، فالوظيفة عندما تمارس وفقا للقانون لا يمكن أن تترك متعسفة في أداءها دون رقابة ومحاسبة وتدقيق، كونها تتعلق بجانبين:.
الأول _ لكونها جزء من الجهاز الوظيفي الموكل له خدمة الشعب مقابل ألتزام مالي كعقد معاوضة أو كونه مرفق إداري، يقع ضمن نفس الأطر التي تحكم عمل الإدارة ومنها أن الأداء مقرون دائما بالقانونية وخضوعه للرقابة الشعبية أو السلطوية الذي يمثلها الدستور والقانون,
الثاني _ الوظيفة أيضا مسئولية تقوم على مبدأ النية الحسنة في الأداء إبتداء، والأداء الموافق لمتطلبات الحد الأدنى من الجودة التي تضمن عدم الإصرار بجوانب مهمة تتعامل معها الوظيفة، منها الحقوق والمصالح والأموال المعهودة لها وحتى الأمن المجتمعي الذي هو من أساسيات الروابط في المجتمع المنظم.
أن فهمنا الحقيقي بأن القضاء بالنهاية والخلاصة هو اجتهاد بشري، وهو في جوهره الأصل عملية عقلية للبحث عن الحقيقة منطقيا من وجه معرفية، وإمضاء للعدالة من وجه من وجهة عملية ملموسة، وكلا المطلبين عسير أن نجعلهما في محل تساهل أو وضع النوايا السليمة أبتداء، فالقاضي مهما خلصت نواياه وأحتاط في عمله وسلك الأصول المهنية اللازمة، ومهما بذل أقصى الجهد في عمله ليخرج بقناعات شبه ثابتة عنده، فهو غير معصوم من الخطأ بالتأكيد لأن ما خرج به بني على مجمل تصور بنائي في ذهنه يراه سليما ومعافى، بل هو في ذلك كإنسان يكون عرضة له، إذ ليس في الناس من يسلم من الخطأ.
غي الجانب المثالي القيمي وأقصد به الدين وأحكامه بما تحمل من تمامية في الرؤيا وصوابية في التوجيه، نجد إشارات حقيقية لهذا الموضوع وأن الإنسان بطبعه وطبيعته خطاء، نجد في القرآن مثالا عمليا لورود الخطأ حتى على الأنبياء حين يقضون، قال تعالى في سورة الأنبياء “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلًّا آتينا حكمًا وعلمًا” الآيتان 78و79، وتذكر كتب التفسير أن سليمان عليه السلام راجع أباه في حكمه واقترح عليه حكمًا آخر رآه أصوب فأمضاه، وقال له “وُفقت يا بني، لا يقطع الله فهمك”، هذا في الجانب الديني، أما في الجانب الوضعي نجد أن الأمثلة والوقائع لا يمكن حتى جردها أو إحصائها التي تثبت حقيقة أن ساحة القضاء مثلها مثل أي ساحة عملية لعقل الإنسان وتصرفه وسلوكه اليومي مليء بالأخطاء والعثرات العقلية.
وسائل النظم القانونية المعاصرة في توقي الخطأ القضائي وعلاجه متنوعة وعديدة، وفي هذا المبحث نشير إلى واحدة من أهم تلك الوسائل وأكثرها أستعمالا وتداولا، وهي التقرير الدستوري والقانوني في حق الخصوم في الطعن فيما يصدر ضدهم من أحكام عبر مؤسسة ونظام التقاضي حتى أنها تدرج اليوم في لوائح وشرع حقوق الإنسان وفي صلب الدستور، فحقيقة تقرير هذا الحق ينطوي على تسليم المشرع بأن الخطأ القضائي ليس أمرًا شاذًّا ولا هو عيب أو مستغرب على بشرية هذا النظام مهما أمتلك من خبرة وتدريب ومران، بل إن شيوعه أمر ملحوظ وهذا الحق يؤدي في النهاية وظيفة مزدوجة، فهو بمجرد تقريره وبغض النظر عن ممارسته كفيل بحمل القضاة على بذل مزيد من العناية فيما يفصلون فيه من دعاوى، حذرًا من أن تُلغى أحكامهم أو تُعدَّل عند الطعن فيها وقد يرتب ذلك المسئولية الوظيفية أو التقصيرية عليهم، فتقرير حق الطعن عاصم إذا من الوقوع في الخطأ إلى حد كبير، وتلك هي الوظيفة الواقية والاستباقية لهذا الحق، أما الوظيفة الأخرى فتبدو عندما يباشر صاحب الشأن حقه بالفعل وفي هذه الحالة يهدف الطعن إلى تدارك ما شاب الحكم من خطأ أو أحتمال وجوده بشكل ما حتى لو من وجهة نظر شخصية، وذلك بتصحيحه على نحو يجعله متفقًا مع حقيقة الواقع ومطابقًا للقانون، وهذه هي وظيفة العلاج أو التصحيح.
إذا نحن عندما نشير للقضاء كوظيفة من وظائف مؤسسات الدولة وأجهزتها بعيدا عن التوصيفات التي تجعل منها ديكتاتورية محصنة عن المسألة والمراقبة والتدقيق، إنما نضعها فوق القانون ونحاول من خلالها ضرب قيمة الوظيفة عندما يطغى المفهوم السلطوي عليها فوق مهمات الوظيفة، قد يكون من المهم أيضا حماية القضاء كوظيفة من التأثر والتأثير والأنسياق وراء عوامل مؤثرة خارج القانون شيء مؤكد ومهم، ولكن أيضا من الضروري أن يكون ذلك قانونيا وخاضع للرقابة والمسائلة أيضا، لذا عندما تنص المادة 100 من الدستور العراقي لعام 2005 من أن (لا حصانة لأي قرار من المسائلة والطعن)، إنما أراد المشرع من ذلك البلوغ العالي من حق الرقابة على أي قرار ممكن أن يؤدي إلى تعسف أو أستغلال في ممارسة سلطة الوظيفة ومنع التفرد بالحماية القانونية لها، بنفس الوقت يحمي مصدر القرار من الخطأ الوظيفي وأثاره.
لكن عندما تمارس سلطة القضاء دورها الوظيفي من وجهة نظر كونها سلطة مستقلة يحكمها القانون ويمنحها حق حصانة مطلقة في تقرير ما تتعامل به دون أن يكون هناك حائط صد، أو بابا يلجأ إليه المتضرر الذي يزعم أو يثبت وجود خطأ تحت بند أستقرار التعاملات البينية وحماية النظام القضائي، ودون أن يحدد وسيلة أخرى لضمان هذا الأستقرار، فأن الدستور والقانون هنا يشجع نوعا من الديكتاتورية العميقة التي قد تستغل من قوى مؤثرة في حرف الوظيفة القضائية من مسار العدل والعدالة إلى مسار ممارسة السلطة من باب قمعي وتحت مضلة القانون نفسه، مثلا عندما يشير الدستور بشأن قيمة الوظيفة القضائية للمحكمة الأتحادية العليا في العراق المؤسسة بموجب أحكام قانون إدارة الدولة للمرحلة الأنتقالية عام 2004، ثم عدل قانونها الملغي وخلافا للدستور والقانون من قبل مجلس النواب ليلائم بشكل مشوه الأحكام الواردة بدستور عام 2005، ويصف قرارات المحكمة وقضائها بأن قراراتها باتة وملزمة وغير قابلة للطعن أمام أي جهة ولا حتى أمامها تحت أي ذريعة، إنما منح هذه السلطة وهذه المحكمة المعصومية التأبيدية عن قرار بشري شديد الأحتمالية والتوقع من أنه يخضع للخطأ الحقيقي أو الأفتراضي.
عندما وضعت النظم القانونية عبر تاريخها العملي التقاضي المتدرج فأنها بالحقيقة توصلت بشكل عملي أن القضاء وأرتباطه بالتفسير المعتمد على القناعات والرضا الشخصي بالمطابقة بين النصوص والوقائع والأحداث، ليس بالضرورة أن يكون ذلك تاما أو حقيقيا، أو على الأقل يمكن حماية بالتشدد من تطبيق مواد القانون والرقابة عليه، لذا كانت فكرة التدرج عبر مستويات التقاضي وعدد القضاة والتجربة الشخصية لهم لتقلل من مستوى الخطأ المقصود والخطأ الغير مقصود عبر أستئناف عملية التقاضي بدرجة ثانية، وتأسيس حق الطعن في الأحكام أمام محاكم التمييز أو محاكم النقض والإبرام.
هذه الحماية تؤمن نوعا من الحصانة للحقوق وللقضاء كوظيفة عبر الرقابة على حسن التطبيق أولا، و منح المؤسسة القضائية حماية من التلاعب أو التأثير في التعاملات الوظيفية، لكن المسألة تثور بشكل خاص عندما نرى الجزء الأخر من القضاء وربما هو الجزء الأخطر في حياة المجتمعات والدول والأنظمة الأجتماعية، ألا وهو القضاء الدستوري الذي يتحكم بأليات ممارسة السلطة للدولة وممارسات السلطة داخل أجهزة الدولة، ببساطة عندما يكون القضاء الدستوري محصن فعلا من الخطأ والأجتهاد الدستوري السليم نؤسس لدولة ومجتمع مستقر، بشرط أن لا يكون هذا القضاء يملك معصومية كاملة كتلك التي تملكها المحكمة الأتحادية العليا في العراق، والتي أثبتت التجارب الكثيرة من عمرها الذي قارب أقل من العقدين أنها قد ساهمت في إرباك المشهد الدستوري عبر قرارات كانت في ذاتها أنتهاكا للدستور والقانون، وتحت مبررات عديدة وأحيانا لا يمكن قبولها البتة.
ألأساس الأفتراضي أن يُبنى القضاء على أساس العقيدة العامة أكثر من أي سلطة مؤسسية أو وظيفة حكومية أخرى، فالقضاة سلميون لا يقودون الجيوش أو قوات الشرطة ولا ينفذون القانون على الأرض، ولا يتمتعون بسلطة المال الخاصة بتمويل المبادرات ليؤثروا من خلالها على المجتمع، ولا يمررون تشريعات ما لم تكن مقره أصلا وأصوليا من قبل، وبدلاً من ذلك فإنهم يصدرون أحكامًا تطبيقية ملائمة بشأن رغبة القانون وخياراته الموصوفة بالدقة والتحديد، إذا الأحكام التي يجب أن يؤمن بها الشعب جاءت من مأمورين قضائيين وشرعيين ومستقلين وأكفاء، ولا بد أن تكون قد حازت على مستوى عال ن الإطمئنان والتقيد.
نعرض اليوم واحدا من القرارات التي فيما يبدو أن محتواه وفقا للتفسير الفقهي الدستوري قد أنتهك مبدأ مهم وأساسي في عملية التقاضي، وهي قاعدة “لا أجتهاد في مورد النص”، هذه القاعدة الأساسية ليست وليدة تجربة أو خبرة قضائية تراكمية عرفها الإنسان من الواقع، ولكنها في الحقيقية هي جزء من العقيدة القضائية والعدلية التي تجذرت منذ أن عرف القضاء العراقي علاقته بالشريعة الإسلامية، فالاجتهاد دائرته الأساسية البحث عما لا ورد فيه نص أولا ولا بد أن ينسجم مع فلسفة الشريعة والقانون من جهة ثانية، ووظيفته هي عملية تدخل القضاء في دوره في حل المعضلات المسكوت عنها في مجالات الحياة اليومية، ويسمى الأجتهاد القضائي خلافا عن الأجتهاد الفقهي أو الأجتهاد العقائدي بحسب الأختصاص، وإن كانوا جميعا يتوسلون بنفس الألية في بيان الحكم أو الرأي المجتهد به.
القرار الذي أتحدث عنه بالرغم من أنه صدر منذ أكثر من أربعة عشر عاما لكنه أحد أهم القرارات التي أسست فيما بعد لأنتهاكات كثيرة من قبل المحكمة الأتحادية العليا للدستور، مستغلة الحصانة الدستورية لها في لزومية النفاذ المطلق من جهة، وعدم القدرة على تصحيح الخطأ بعد وقوعه، بالرغم من التعديلات التي أجريت على النظام الداخلي للمحكمة، والتي أتاحت لها تصحيح بعض المبادئ العملية والحكمية من خلال مفهوم الرجوع عنها، القرار هو 9 / أتحادية / 2009 الصادر في 5 / 2 / 2009 والذي أفتت به المحكمة بناء على طلب نائب رئيس مجلس النواب الذي كان يمارس مهام الرئاسة خلافا للدستور والنظام الداخلي، فقد بررت المحكمة قرارها بأنه انسجاما مع النظام الداخلي، معتبرة إن المجلس طالما أوفى بألتزاماته دون أن ينجح في أنتخاب رئيس للمجلس، فلا تثريب من تأجيل ذلك إلى إشعار أخر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.