الحوار الهاديء

كلمة رثاء في ذكرى الراحل القس لويس قصاب (لمناسبة الأربعين)

الكاتب: لويس اقليمس
كلمة رثاء في ذكرى الراحل القس لويس قصاب
(لمناسبة الأربعين)

لويس إقليمس
يعيش الفقراء والأغنياء ويموتون، ومثلهم الضعفاء والأقوياء، البؤساء والعظام، الفاشلون والعلماء، وهلمّ دواليكَ. وكلّ هؤلاء وغيرُهم، يولدون من أرحام نساءٍ خُلقن جميعًا بإرادة متساوية، حكيمة وهادفة، من خالق السماء والأرض والعناصر، ويودّعون العالم الفاني، كلّ على شاكلتِه وهواه وسلوكه. مثلهم، كانت ولادة فاضل توما القصاب في 6 تشرين أول 1935، ابنًا لعائلة مؤمنة تقية تخشى الله وتسعى لحبّ الغير. فأحسنَ الوالدان تربية أولادهم، ومنهم “فاضل” الذي نبغ منذ نعومة أضفاره، وقد أصبح لاحقًا علَمًا شامخًا ومعلمًا بارزًا، ليسَ في بلدته “بغديدا” وطائفته السريانية منذ رسامته كاهنًا في 1960، بل على مستوى الوطن، مارًا بمحطاتٍ، طبع في كلّ واحدة منها أثرًا. بل تركَ عطرَ زهرة ولونَ وردة وشموخَ بنيانٍ، تمامًا كما زرع في أرجاء بعضٍ منها، أشواكًا جارحة وأفاح قارورات زرنيخ أزالت الأثر الطيب في بعضها!
أرثيك في أربعينيتك أبًا وكاهنًا على ماضينا الطيب معًا، ولا أبكيك صديقًا تخلّيتَ عنه في نهاية الشوط الذي تأزم. فالدمعة العصيّة انحبست في المآقي ولم تُرد الخروج، حين شاهدتك وأنتَ توارى الثرى مهزومًا أمام الموت العاتي، بالرغم من فداحة الخسارة فيكَ. فأين أنتَ، يا مَن شغلَ الدنيا ودارت حولَه الأحاديث، خيرًا وشرًّا، مدحًا وقدحًا، حسرةً وتشفيًا، كلمةً وسكوتًا؟!!!
أرثيك، وهذا حقّكَ عليّ. فمسيرة أكثر من خمسين عامًا بيننا، بدءًا من معرفتي بك وأنا طفلٌ صغير، ثم شابٌ يافع، فتلميذٌ في المعهد الإكليريكي، ثمّ طالبٌ جامعيٌ وقائدٌ شبابيٌ لفترة واعدة من تاريخ البلدة، وصولاً لفترة خدمتي العسكرية في بغداد حين اضطرّتك الظروف للانتقال إليها مرغمًا في كنيسة سيدة النجاة، ومرافقتي لك ومساندتي إياك فيها قولاً وفعلاً، لحين عودتك لاحقًا مهزومًا مكسور الجناح إلى بلدتك!
خالك الكثيرون في بدء مشوارك، هامةً شامخةً وأنتَ وسعَها في أعمالك وخطواتك وخطاباتك ومواعظك الفلسفية وكتاباتكَ التي ارتقيتَ بها لسدّة الجهابذة، فأضعتَ شيئًا منها لاحقًا في دهاليز الأنانية والغرور والتمرّد. وكنتَ حكيمًا ضالعًا آسرًا في أوائل كهنوتك، تُجاري العمالقة في زمنك من أمثال بهنام دنحا ومنصور دديزاوإسحق موشي ويعقوب شيتو ويوسف باباوي وتوما سكريا ويوسف ككي وغيرهم بقربك وما بعدكَ، ففقدتَ بريقَك يوم تعاليتَ في دنيا الجاه والسلطة وحب المادة.  وكنتَ أميرًاً في علاقاتك مع العائلات والأخوّات والجمعيات، حثيثًا في أنشطتك، غيورًا في خدمتك، سريعًا في مناوراتك الرسولية، فخسرت منها الكثير حين اختلف هؤلاء أو بعضُهم في وجهات نظرٍ معك، وقد فرضتها ظروفٌ قاهرة متضاربة الأهداف والتوجهات. وكنتَ صديقا عصيًا ورفيقًا ودودًا إلاّ لمَن خلتَه لدودًا منافسًا في الرأي والمسيرة، وفي هذا كسرتَ أواصر الودّ والوفاء والصداقة، على غير عادة.
في أواخر لقاءاتي القليلة معك بعد أحداث 2003، ولعلَّ آخرها كان في 2013 ، والسبب في قلتها، الأحداث المؤلمة وصعوبة التنقل والخلاف المبدئي حول بلبلة الأحداث ومسبباتها وسلوكها الشائك واتخاذها مجرى مأساويًا مخيّبًا، كنتُ أراكَ بعدُ عملاقًا في عزّ شموخك وقوتك وصحتك، غير متيقّن هونَك وتنازلّ صحتك وتدحرجك بهذه السرعة مؤخرًا، ليخطفك المنون ويغيّبك، قبل اكتمال مشروعك بل مشاريعك التي لم ترق للكثيرين من قدامى أصدقائك الأوفياء، وأنا واحدُهم. كنتُ أحاول في ذلك اللقاء رأب الصدع بيننا وتقريب الأفكار ولملمة بعضٍ من جراحاتٍ فرضها واقعُ الغدر والتخاذل والفوضى الخلاّقة وأنانية المصالح الذاتية والفئوية في عموم البلاد وفي منطقتنا بالذات. وكالعادة، حسبتُك في حينها، تنقادُ إلى حنينِ سالف الأيام، فتذكّرني بما طوته الأحداث وتكشفُ لي عن مشاريعك الكثيرة في العمل والكتابة والاتصال، مختالاً بإخراج كوم أوراق محرَّرة بقلمك البارع من جرارٍ في قلاّيتك، بعضُها مطبوع، فيما أخريات كانت بانتظار الفرصة لترى النور الذي ضاقَ في حدقات عينيكَ، ولم تنجزها! ولكنك بقيتَ مصرًّا على منهاجك. فما وعدتَ به، سرعانَ ما نقضتَه في قوادم الأيام التالية!
كان قاسيًا عليّ وعلى جميع عائلتي الكبيرة، أن تضحي بصداقة دامت عقودًا، حتى حُسبنا جميعًا اتباعًا لخطّك، منذ تعارفكَ على شيخها الراحل الذي لم يبخل يومًا بدعمك ومساندتك في مشاريعك وخطواتك وتوجهاتكَ. فهنيئًا له غيابُه منذ سنوات كي لا يرى ويبصر ويسمع مواقفَ مختلفة وجارحة مِن أعزّ صديقٍ لعائلتِه الوفيّة، ولم يكن ليروقَ له ما برزَ لاحقًا من تجاف وتباعد وجفاء بل من انتقاص وتحريض أحيانًا، في منابع الوفاء بسبب الاختلاف في الرؤى وفي الأحداث.  
هكذا إذن، لم يشأ الموت رتق ما انكسر وتعديل ما اعوجّ وتصحيح ما خرجَ عن المألوف، حين لم تفعل ولم تسعى لفعل ذلك قبل أن يغتالَك في غيرِ أوانكَ. وهذه حال الإنسان، يستعجلُ أو يبطئ في قرارات نفسه، يصحو أو يغفو على خيارٍ لا يملك أحيانًا ما يواجه به مواقف، بقوة وعزيمة وإرادة ونية صادقة.
أمام نعشك، وأنتَ القوي الضعيف، الجسور الواهن، الآمر الخاضع، وقف الحاضرون حيارى في كيف يرثونك، ومَن يؤبّنُك ويقول عنك كلمة الوداع الأخيرة بحقك. هكذا إذن، لم يجرؤ أحدٌ التقدّم لهذه المهمّة المحيّرة، بسبب إشكالية العلاقة وحراجة الكلمة وما قد يصدر بسبب ذلك من شططٍ أو مغالاة أو قراءةٍ غير سديدة في السيرة والحدث والمشروع. فكانت المهمّة الشاقة لزميلٍ يافع من الجيل الأخير، وقد احتار في القول إلاّ في المدح والتزلّف والتصاغر والمداهنة، تيقنًا بالتهيّب من جبروتك المعتاد، حتى وأنتَ راقد في سكوت أبدي بالموت. وقد أنهى الأخير ما عهدوهُ عنك من هيبة وتعالٍ وسطوةٍ. وإن كان البعضُ يبرّرُ مثل هذا السلوك في مثل هذا الموقف الجلل، فلأنّ أمثال هؤلاء الذوات يجهلون التاريخ وتفاصيل بيان حقوق الرفقة ودروب الوفاء ودهاليز الأحداث في غابر الزمن، حينما عهدناك نحن الذين عشنا معًا ذلك المشوار الطويل بحلوِه ومرِّه، وأنتَ تصولُ وتجول، تأمر وتشير، تنهى وتوزّع الأدوار، تكتب وتخطّطُ، لنراكَ محاطًا في عتيّ سنيّك بقدرات شبابية تفتقر إلى الخبرة والروية والحكمة في نهاية مسيرتك المحيّرة، بسبب غياب الرفقة الطويلة للأوفياء من زملائك في سلك الكهنوت أو في الحياة العامة، أو بسبب ابتعادهم عن شخصك للاختلاف في التوجه والرؤية وقراءة الأحداث، ولأجل الابتعاد عن المحظور أيضًا.
من حقّي أن أحيّي فيك منجزات وأذكرَ نجاحات وأحصي خطوات لم يبلغها العديد ممّن عاصروك، الذين لم يبلغوا ما بلغته. تمامًا كما أعطي لنفسي الحق بذكر إخفاقاتك ومزالقك وهفواتك، وقد صرّحتُ بشيء منها إليك في بعض لقاءاتنا المباشرة، كلّما كانت تتسنى لنا الفرصة للنقاش والمذاكرة أو في الكتابة مباشرة. وقد كانت هذه تصلك جميعًا وتغيض فيك الغيرة والغضب أحيانًا.
 وأكاد لا أنسى البتة، وضعَكَ إيايَ في القائمة السوداء ككاتبٍ في موقع “بغديدا” الإلكتروني منذ 2008، فحجبتَ عنّي قرّائي، بسبب اختلاف الرؤى في طروحاتي ومناهضتي لمشروعك حول البلدة وفي شؤونٍ مصيرية أخرى أثبتت الأيام صدق حدسي وحدس الكثيرين. بل هناك مّن رأى، أنّ من أسباب تدهور صحتك ووهن قوتك وتراجع عن*فوانك، يعود في جزءٍ كبيرٍ منه إلى الألم الذي اعتصر فؤادك لما آلت إليه بلدتُك وأهلُها وعدم اكتمال المشروع الذي عملتَ عليه ووقفتَ ذاتكَ وجهدَك ومّن جنّدتَهم لأجله، فانتهيتَ أنتَ ولم ترى إنجازَه المخيب.
إنْ كنتُ أعتب عليك مثل هذا الموقف غير المستقيم وغيره من مواقف عدم الوفاء، فلأنّكَ كنتَ تستحق أكثر ممّا فعلتَ وما أنجزتَ وأدّيتَ طيلة سنواتك الثمانين، وأنتَ كنتَ ماتزال شامخًا فاعلاً أبيًّا حتى تاريخ السقوط الأكبر لبلدتك بغديدا في 2014، بالشكل والطريقة التي آلمَت الجميع. كنتَ تستحقُّ أرفع الرتب والنياشين في خطوات ومشاريع ومواقف مبدئية بنّاءة لخدمة المجتمع والبلدة والوطن، قبل أن يغتالَك حبُّ التمرّد والتعالي والأنانية. ولكنّك أضعتَ تلك المنجزات في أقبية الاستصغار بالإيراركية التي لم ترتقي لهيبتك ولا لعلاقاتك أو دهائكَ. فمَنْ ارتقى من زملائك قبلكَ أو بعدكَ، لمْ يكن بأفضلَ من قدراتك وجدارتك واستحقاقك. ومّن وصلَ مرتبة أعلى، لم يكن بأحسنَ قدرًا من خطواتِك ومهاراتكَ وبصيرتك الثاقبة. ومَنْ داهنَ وحصدَ، لم يكن بأكثر من دهائك ومراوغتك ومكرك. فبعض هؤلاء من وجهة نظركَ حتى يوم رحيلك، كانوا لمّا يزالون أقزامًا حتى في مواقعهم ومراتبهم المتقدمة، إن في محيط بلدتك وطائفتك ووطنك، أو خارجها جميعًا. لكنَّ سلوك الأحداث ومجريات الأمور، كانت قد رسمت لكَ طريقًا آخر في الندّية والمعاندة والتمرّد. حتى في رتبتك الخورأسقفية الأخيرة، وهي الوحيدة التي وصلتك بالطريقة التي أُشيع عنها، لم تكن في قرارة نفسكَ مقتنعًا من توزيع مثيلاتِها بالجملة من قبل رئاستِها، وأنتَ الذي كنتَ من المعترضين على اتشاح ألوانِها في الثمانينات من القرن الماضي. هكذا كنتَ تعلنُ للملأ وتفصح عن رأيك بها لمَن حواليكَ، وأنا شاهدٌ على قولك ورأيك فيها.
في الختام، أقول لك: إنّي أحبّك حتّى لو انتقلتَ وغبتَ ولن تعود أبدًا! وسأظلّ أكنُّ لك كلَّ تقدير ومحبة واحترام حتى وأنتَ ضعيفٌ وحيدٌ بلا أنيسٍ في لحدكَ، بالرغم ممّا أظهرتَه من كراهية وحقد وعدم رضى لاختلافي معك في الرأي والكلمة والحدث، وتغاضيك عن أية مبادرة لتسوية سوء الفهم والاختلاف قبل رحيلك. فالاختلاف في الرأي لا ينبغي أن يفسد في الودّ قضية. هكذا يقولون! لأنّ الأوفياء الحقيقيين لا يضحون بصداقة متجذّرة لأجل متاع الدنيا أو اختلافٍ في الرأي والمنهج والرؤية. والحياة، مهما طالت أيامُها ومتعتُها ومغرياتُها، فهي قصيرة وزائلة ولا يبقى منها إلاّ الأحاديثُ والذكرُ!
أخيرًا وليسَ آخرًا، لا أنسى الموقف الصعب ذاك. فما آلمني وسيبقى، أنك لم تجهد النفس لتسأل عنّي وتهنّئني على سلامتي ومعي إبني الصغير، من حادثة كنيسة سيدة النجاة، وأنتَ عالمٌ أنّي كنتُ فيها من ضمن الشهداء والجرحى. وتلكم من فواصل الخصومة بيننا وما عناه ذلك من ضغينة متينة متجذّرة في أعماقك. بل والأنكى من ذلك، ما بلغني من تكذيبك لوجودي فيها، بالرغم من هولِها وبشاعتِها ومحنتها.
قولٌ أخيرٌ قبل أن يُسدل الستارُ عن ذكراك وأنت ساكتٌ في تراب الغربة خارج بلدتك. نمْ في رحيلك مرتاحًا، حتى لو لم يكتمل شريط مشاريعك! فالقدرُ أصرَّ على تغييبك قبل إنجاز بعضِها، وترابُ بلدتك لم يحتضنكَ، لأنكَ بعتَه مع أنصارِك ومَن في دائرتكم، بالثلاثين من الفضة. ولكنْ اطمئِن، فقد انهارت في غيابك عندي، كلّ أبجديات التفوق والنجاح والأحلام والمكر والتفاني والارتقاء، على التوالي. إنها الليلة التي لم أذرف فيها دموع التوجع لرحيل عزيز ولم تكتئب عندي الحياة، والسبب، لأنّ الفارس سقط بفعل أفعالِه من غيرِ تقريرٍ أو قرارٍ.
          كنتَ من العظماء، وحسبتُكَ دومًا كذلك، بالرغم من كلِّ شيء.!
 
لويس إقليمس
بغداد، في 10 تشرين أول 2015..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!